* محمود فرحات: اهتزاز ثقة الشعب فى بعض القضاة * محمد شحاتة: جريمة يجب محاسبة من دعا إلى ارتكابها * حاتم إسماعيل: القضاة أول المتضررين لتراكم القضايا عليهم * هيثم عمر:محامون أغلقوا مكاتبهم بسبب "وقف الحال" فى مشهد حزين استمر عدة أيام وسط سخط وغضب أهالى مدينة الإسكندرية.. وقفت أسر وأقارب ثلاثة أشخاص توفوا بالمدينة خلال الفترة الماضية أمام المستشفيات ينتظرون بلهفة وحرقة الحصول على تصاريح دفن موتاهم؛ لأن "إكرام الميت دفنه"، وظل الأهالى يقفون أمام المستشفيات دون جدوى، بسبب أن القضاة ووكلاء النيابة قد اقتحموا عالم السياسة واستجابوا لدعوات أحمد الزند، رئيس نادى القضاة، وقاموا بتعليق العمل فى المحاكم والنيابات؛ ليدفع المواطن البسيط ضريبة بحث بعض رموز العدالة والنزاهة عن مصالح وأهداف شخصية ضيقة، وانحيازهم إلى فصيل سياسى على حساب فصيل آخر؛ وهو ما أفقدهم -حسب وصف قانونيين- ثقة الشعب فيهم. ولم يكن الموتى وأهاليهم المكلومون عليهم ليس لموتهم فقط، ولكن لعدم القدرة على دفنهم ومواراة جثامينهم الثرى وأخذ العزاء، هم فقط ضحايا إضراب القضاة؛ ولكن النساء الأرامل والمطلقات والأطفال الأيتام وأصحاب القضايا المستعجلة من المواطنين البسطاء والفقراء كانوا ضحية أيضا لهذا الأمر، كما أن المحامين كانوا ضحية بسبب توقف مصدر رزقهم الوحيد، لدرجة دفعت بعضهم إلى غلق مكتبه وإعادة القضايا لموكليهم. ويرى قانونيون ومستشارون أن قرار تعليق العمل بالمحاكم والنيابات جريمة يجب محاكمة ومحاسبة من تسبب فيها ودعا إلى ارتكابها، مشددين إلى ضرورة أن يتم خصم الأيام التى لم يعمل فيها القضاة من رواتبهم، لأن هذا كسب غير مشروع؛ حيث قام القضاة بتعطيل مصالح الناس ويبحثون عن مرتباتهم ومصالحهم الشخصية. وأكدوا أن قرار تعليق العمل بالمحاكم والنيابات لم يقتصر ضرره فقط على تعطيل مصالح البسطاء، وإنما زيادة العبء على القضاة أنفسهم؛ حيث إن المحاكم فى مصر تنظر 15 مليون قضية سنويا فى ظل قلة عدد القضاة؛ حيث ينظر القاضى الواحد يوميا ما بين 150 إلى 200 قضية، وأشاروا إلى أن جميع القضايا التى كانت ستنظر خلال فترة تعليق العمل تم تأجيلها لتتراكم من جديد إلى جانب قضايا أخرى؛ وهو ما يضاعف معاناة القضاة، وهو ما ظهر ببعض المحاكم التى استأنفت عملها بعد عدة أسابيع من الإضراب مثل المحاكم الجزئية بالوادى الجديد ومحكمة الجنايات بدمنهور. يذكر أن نادى القضاة، الذى يترأسه أحمد الزند، قد دعا إلى تعليق العمل بالمحاكم؛ بسبب اعتراضهم على الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس محمد مرسى فى 21 نوفمبر الماضى، ورغم أنه تم التراجع عن الإعلان وإصدار إعلان دستورى جديد فى 8 ديسمبر الجارى، إلا أن نادى القضاة أصر على موقفه واستمر فى تعليق العمل، بل وطالب القضاة بالامتناع عن الإشراف على استفتاء الدستور الجديد، ورغم إقرار الشعب الدستور بأغلبية قاربت الثلثين، وانتهاء المرحلة الانتقالية والإعلانات الدستورية، إلا أن نادى القضاة يصر على البقاء فى الحياة السياسية، ضارباً بمصالح المواطنين عرض الحائط. فى البداية، قال حاتم إسماعيل، المستشار بمحكمة الاستئناف: إنه بعد مرور عدة أسابيع على تعليق العمل فى المحاكم والنيابات وجدنا اعترافا من قبل بعض القضاة المضربين أنه كان تصرفا لا يتسم بالحكمة أو المسئولية، ومنهم من يشعر بالندم الحقيقى، بسبب انسياقه وراء دعوات لها أغراض سياسية لتعليق العمل، مشيرا إلى أن تعليق العمل تسبب فى تأجيل عدد كبير من القضايا، وهو ما تسبب فى تراكم القضايا أمام القاضى فى كل دائرة، مما يزيد العبء عليه، خاصة أن القاضى فى الأحوال العادية يعانى بشكل يومى من كثرة أعداد القضايا التى تتطلب الحكم أو إعادة النظر فيها. وأضاف إسماعيل أنه يمكن القول إذا كان لتعليق العمل بالمحاكم متضررون وضحايا فإن القضاة الذين قاطعوا العمل هم أول المتضررين إلى جانب فئات البسطاء من المتقاضين، وعلى رأسهم المطلقات والأرامل وأصحاب النفقات المختلفة، وتابع: "حتى الأموات لم يسلموا من التضرر من تعليق العمل بالنيابات، وهناك واقعة إنسانية بالإسكندرية تدعو للأسف؛ حيث توفى ثلاثة أشخاص وتم احتجازهم فى ثلاجة أحد المستشفيات عدة أيام متتالية، لعدم استخراج إذن بالدفن نظرا لتعليق العمل فى النيابات". وأوضح إسماعيل أن مثل هذه الوقائع تؤكد حقيقة مهمة، وهى أن مهنة القضاء والنيابة حيوية جدا، ولها صلة مباشرة بحياة المواطنين؛ ولذلك لا يجوز بأى حال من الأحوال التقاعس عن القيام بها، مشددا على ضرورة ابتعاد القضاة عن السياسية، وأن من حقهم أن يعترضوا ويتخذوا ما شاءوا من مواقف للدفاع عن استقلالهم وحقوقهم؛ لكن يجب أن لا يكون ذلك على حساب المواطن البسيط. تضرر المحامين من جانبه، يرى هيثم عمر، منسق عام ثوار المحامين، أن تعليق العمل بالمحاكم والنيابات جعل المواطنين أكثر إحجاما عن رفع القضايا، وأصبح أغلبهم يلجأ فى حل مشاكله لبدائل غير قانونية، التى منها استخدام القوة والبلطجة (أخد الحق بالدراع)، وذلك بعدما تخلت الجهات القانونية عن ممارسة دورها فى فض النزاعات، وهو وضع خطير يكرس للفوضى والعنف. وأضاف عمر أن المتقاضين ليسوا هم فقط من تضرروا من تعطيل العمل بالمحاكم؛ حيث إن المحامين كانوا من أكثر الفئات المتضررة، فهم ليسوا كغيرهم من الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم أول كل شهر، ولكن رزقهم اليومى مرتبط بالعمل فى المحاكم، وقد أسهم التعليق فى قيام عدد كبير من المحامين بإغلاق مكاتبهم فى الفترة الماضية، وإعادة جميع القضايا إلى موكليهم، مشيرا إلى أن الأزمة التى يمر بها المحامون حاليا، جرّاء تعليق العمل بالمحاكم، هى الأزمة الأكبر من بين عدة أزمات مروا بها بعد الثورة. أما هشام منصان، محام، فأوضح أن هناك ظلما كبيرا وقع على العديد من المواطنين خلال الفترة الماضية، جراء تعليق العمل فى المحاكم والنيابات وعلى سبيل المثال هناك قضايا متوقفة على المصالحة بين أطراف متخاصمة، وأسهم تعليق العمل فى النيابات والمحاكم معا على إفشال التصالح والعودة إلى النزاع مرة أخرى. وأضاف أن تعليق عمل النيابات أدى إلى ضياع حق المواطنين، ووقع ظلم كبير عليهم، ففى ظل غياب العرض على النيابة أصبح من يقبض عليه يحبس ويجدد له الحبس؛ نظرا لعدم عرضه على النيابة، كما أن التعليق تسبب فى توقف صرف بعض المستحقات المالية لبعض المتقاضين، التى لا تقتصر فقط على النفقات، وإنما رواتب موقوفة أو حقوق مسلوبة؛ مما يضر بأصحابها ويزيد من فقرهم. وتابع منصان أن الضرر الذى لحق بالمواطنين جراء تعليق العمل سيستمر حتى بعد عودة القضاة المضربين إلى عملهم؛ لأن جميع القضايا التى توقفوا عن نظرها ستتراكم وتضاف إلى القضايا الجديدة؛ مما يؤدى إلى عدم قدرة القاضى على الفصل فيها، ومن ثم يتم تأجيلها لفترة بعيدة أو الفصل فيها دون قراءة جيدة لجميع القرائن، وهذا بالطبع يؤثر على عدالة الحكم، الذى سيكون الضحية الأولى له المواطن البسيط. أضرار معنوية من جهته، أكد محمود فرحات، المستشار بهيئة قضايا الدولة، أن تعليق العمل بالمحاكم والنيابات تجاوز مرحلة الأضرار المادية إلى الأضرار المعنوية؛ حيث إن هذا الأمر يعد موقفا سياسيا خالصا؛ مما أفقد الشعب الثقة فى الجهات المنوط بها حمايته، وهى القضاء والنيابة؛ لأنه لا يحق لهما اقتحام المعترك السياسى والانحياز لطرف على حساب طرف؛ لأن هذا يناقض مبدأ العدالة، ويسبب أضرارا كبيرة جدا بالمواطنين البسطاء الذين لا ذنب لهم فى الخلافات السياسية. وأشار إلى أنه لم يتم استثناء أى قضايا من التعليق، كما زعم البعض أن قضايا الأسرة والنفقات مستمرة؛ حيث إن مئات الأرامل والأيتام لم يجدوا منصفا لهم طوال الفترة الماضية، بالإضافة إلى أن هناك قضايا تسمى (المستعجلة)، التى يتسبب البطء فيها بإلحاق أضرار جسيمة بالمتقاضين لما لها من طبيعة خاصة مثل قضايا الاعتداء على الأملاك وغيرها من القضايا التى تحتاج إلى تدخل فورى من القضاء لحلها، ولقد أسهم تقاعس النيابات والمحاكم إلى زيادة معدل تلك الجرائم؛ وهو ما يجب أن يتحمل مسئوليته كل من اشترك ودعا إلى تعليق العمل. وأوضح فرحات أن هناك عددا من الدوائر كانت لديها قضايا جاهزة للنطق بالحكم، الذى بمقتضاه تعود الحقوق إلى أصحابها، ولكنها أصرت على إنكار الحكم بسبب تعليق العمل؛ مما يمثل قمة إنكار العدالة، وهى جريمة تستوجب معاقبة كل من اشترك فيها. اتفق مع الآراء السابقة الدكتور محمد شحاتة، أستاذ القانون الجنائى جامعة الإسكندرية، الذى يقول إن تعليق العمل بالنيابات والمحاكم محرم فى دساتير بعض الدول؛ لأن لها علاقة مباشرة بمصالح المواطنين، مشيرا إلى أن ما اتخذه بعض القضاة وأعضاء النيابات العامة من قرار تعليق العمل جريمة بنص قانون العقوبات، لما يتضمنه ذلك من إنكار للعدالة التى يقوم القاضى بها، إضافة إلى أنه يدخل ضمن جريمة "الإثراء بلا سبب"، نظرا لأن جميع هؤلاء القضاة يتقاضون رواتبهم دون عمل فى فترة تعليق عملهم. وقال شحاتة: إن تعليق العمل بالمحاكم تصرف غير مسئول، ترتبت عليه أضرار عديدة ببعض الفئات، أهمها بسطاء المتقاضين؛ حيث إن هناك عددا كبيرا من القضايا الملحة تم تأجيله كقضايا الطعن للحصول على علاج على نفقة الدولة من قبل بعض المواطنين الفقراء، وكذلك قضايا الاستحقاقات المالية كقضايا بعض الموظفين ضد أصاحب الأعمال التى يكون فى الغالب مرتباتهم موقوفة وفى انتظار حكم قضائى لاستعادتها، فضلا عن قضايا نفقة الأرملة والأيتام والمطلقات. وأضاف أن من أبرز المتضررين أيضا المحامين، نظرا لكون العمل فى المحاكم هو باب الرزق الوحيد لهم، وتابع أنه يضاف إلى كل ذلك فئة تناساها الجميع وهم بعض الكتبة أو العرضحالجية، الذين يقضون خدمات للمواطنين مقابل بعض الجنيهات يوميا؛ حيث تمثل هذه المهمة بالنسبة إليهم دخلا يوميا توقف تماما؛ بسبب مواقف القضاة السياسية. وأشار شحاتة إلى أن جميع المحاكم التى علقت عملها فى الفترة الماضية ستشعر بحجم ما ارتكبته من جرم فى حق نفسها وأفراد الشعب؛ لما تسببت فيه من زيادة تعطيل مرفق القضاء، الذى يعانى فى طبيعة الحال من بطء شديد كان يحتاج من الجميع النهوض به، وليس إدخاله فى انتكاسة جديدةبسبب مواقف سياسية ومصالح ضيقة.