من أخطر الأمور التى ينبغى أن ننبذها جميعا رؤية الفرد لنفسه بعين الاستعظام، واعتقاده أن له قدرا عند الله بعمله، وأن عنده شيئا ذاتيا يفضل به غيره. هذا الشعور من شأنه –عندما يتلبس به الشخص– أن يجعله دوما يتحدث عن نفسه وعن إنجازاته.. كارها نقد الآخرين له، معظِّما دوما من قدر أعماله، مقلِّلا من أعمال غيره، خاصة المتميزين منهم، كثير المباهاة بإنجازاته، مكثرا من استخدام ألفاظ: أنا.. لى.. عندى.. وتكمن خطورة هذه الصورة أنها قد تحول بين العبد وبين إخلاص عمله لله، فالإخلاص ليس فقط فى التوجه، بل فى الاستعانة كذلك؛ فينبغى للعبد أن يخلص توجهه لله فيما يقوم به من أعمال، وأن يستعين بالله فى أدائه لها.. أما صاحب "أنا وأخواتها" فهو يستعين بنفسه وإمكاناته فى القيام بالأعمال، ومن ثمَّ فهو يرى نفسه أفضل من يتكلم، وأفضل من يفاوض، وأفضل من يدعو.. ولِمَ لَا؟! وقد عظمت نفسه فى عينه وكبرت حتى صارت وكأنها صنم داخلى يعظمه ويقدسه ويستعين به فى قيامه بأعماله، وهذا من أخطر أنواع الشرك الخفى الذى يبعد صاحبه عن التوفيق والكفاية الإلهية، بل يجعله فى مظان غضب الله ومقته.. تأمل معى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من رجل يتعاظم فى نفسه، ويختال فى مشيته، إلا لقى الله تعالى وهو عليه غضبان) [صحيح]. لذلك فلننتبه، فكلما كبر قدر المرء عند نفسه صغر عند ربه؛ ولذلك كان الإعجاب بالنفس من أخطر الصور التى يتحتم علينا أن نتحاشاها جميعا، فالعبرة ليست فقط فى القيام بالأعمال الصالحة وبذل الجهد والطاقة فى طريق الدعوة، بل لا بد أن يصاحب ذلك استصغار للنفس وللعمل، واليقين الراسخ أننا بالله لا بأنفسنا، وأنه لو لم يُعنا الله وييسر لنا الأسباب ما قمنا بالعمل. وهذا ما أكده أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد رضى الله عنهما بعد انتصاراته المتتالية فى العراق بقوله: "فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عُجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تُدل بعمل فإن الله له المن وهو ولى الجزاء". إن العُجب داء وبيل مهلك ينبغى أن نحذر منه وألا نحسن الظن بأنفسنا ونعتقد أننا فى منأى عنه، فهذا الداء له مداخل عجيبة على النفس لا يكاد يسلم منها أحد. قيل لداود الطائى: أرأيت رجلا دخل على هؤلاء الأمراء، فأمرهم بالمعروف، ونهاهم عن المنكر؟ فقال: أخاف عليه السوط، قيل: إنه يقوى عليه -يعنى: أنه وطَّن نفسه على احتماله إن وقع واحتسابه عند الله تعالى-.فقال: "أخاف عليه السيف"، قيل: إنه يقوى عليه. قال: "أخاف عليه الداء الدفين، العُجب". [تنبيه الغافلين من أعمال الجاهلين لابن النحاس]. ولقد كان سلفنا الصالح شديد الحذر من هذا الداء.. تقول السيدة عائشة: "لبست مرة درعا لى جديدة فجعلت أنظر إليها فأعجبت بها، فقال أبو بكر: ما تنظرين؟ إن الله ليس بناظر إليك! قلت: مم ذلك؟ قال: أما علمت أن العبد إذا دخله العجب بزينة الدنيا مقته الله عز وجل حتى يفارق تلك الزينة؟! قالت: فنزعته وتصدقت به.. فقال أبو بكر: عسى الله أن يكفر عنك". [الزهد لابن المبارك]. لقد كانوا دائما يضعون أنفسهم فى منزلة أقل بكثير مما هم عليه كما فعل أبو بكر الصديق –رضى الله عنه– عندما صعد المنبر فى أول خطبة له بعد توليه الخلافة وافتتح كلامه بقوله: "لقد وُليت عليكم ولست بخيركم..". مع أنه –بنص الأحاديث الصحيحة– خير مَن فى الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه استصغار النفس وهضم قدرها والخوف من مقت الله وغضبه. بل إن هذا ما كان يفعله رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو خير البشر الذى غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. أخرج بن المبارك فى الزهد أن النبى صلى الله عليه وسلم، قد أُتى له بطعام، فقالت له عائشة رضى الله عنها: "لو أكلت يا نبى الله وأنت متكئ كان أهون عليك". فأصغى بجبهته حتى كاد يمس الأرض بها، وقال: (بل آكل كما يأكل العبد، وأنا جالس كما يجلس العبد فإنما أنا عبد). [صحيح]. ولقد كان صلى الله عليه وسلم دائم التحذير لأصحابه من العُجب.. انظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم وهو يخاطبهم: (لو لم تكونوا تُذنبون، لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك: العُجب... العُجب). [حسن]. من هنا قال العلماء: خير من الإعجاب بالطاعة: ألا تقوم بالطاعة.. ومقصدهم من ذلك أنه خير من القيام بعمل والإعجاب به –فى غير الفرائض– ألا تقوم به.. لماذا؟ لأن الإعجاب بالعمل يحبطه ويعرض صاحبه للمقت عند الله، أما عدم القيام بالعمل فليس فيه مقت. وخلاصة القول: إنه ينبغى ألا نحسن الظن بأنفسنا، وأن نعيش فى حقيقة أننا لا شىء بدون الله عز وجل، وأن قدرنا عند الله مرتبط بعدم استعظام أنفسنا، وأن العبرة ليست بأدائنا للعمل الصالح فقط، بل لا بد أن نجتهد فى أن يكون عملا يرضى الله عز وجل، ولنعلم جميعا أنه كلما ابتعدنا عن هذه الصورة السيئة اقتربنا من نيل رضا الله ومن ثمَّ توفيقه وولايته ونصرته.