رغم حملة التشويه والتضييق التى مارسها العسكر منذ اللحظات الأولى للاستيلاء على السلطة ضد شبكة "الجزيرة" الإخبارية، التى شملت إغلاق مكاتب القناة فى مِصْر وملاحقة مراسليها والتشويش على شارة البث على القمر الصناعي المِصْري بالمخالفة للقانون مع إطلاق الأذرع الإعلامية للطعن فى الشبكة الإخبارية الأبرز فى العالم العربي والمصنفة عالميا، ضمن حزمة من القرارات التى حاصرت حرية الإعلام وعملت على حجب المعلومات وتكميم الأفواه. ورغم محاولات إدارة شبكة الجزيرة القطرية، للحصول على حقوقها عبر الطرق السلمية ومن خلال الأوراق الموقعة مع السلطات المِصْرية التى تتيح لها العمل بأريحية داخل البلاد، إلى أنها وأمام تعنت الانقلاب قررت رفع دعوة رسمية للتحكيم الدولي ضد حكومة العسكر بموجب تشريعات المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار في العاصمة الأمريكيةواشنطن، مع تفاقم وحشية الانقلاب ضد أنشطة القناة وصحافييها. وأوضحت "الجزيرة" -عبر موقعها الإلكتروني- أمس الأربعاء، أنها لم تجد أمامها أي خيار آخر غير البدء في عمل قانوني عبر مركز التحكيم الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار، نتيجة عدم تجاوب حكومة العسكر مع مذكرة النزاع التي قدمتها الشبكة في إبريل 2014. وشددت الفضائية الإخبارية على أنها تتمسك تمسكًا جادًّا بسلامة وأمن موظفيها، وحقهم بموجب القانون الدولي في حرية التعبير، وحقهم في ألا يتعرضوا لأي توقيف تعسفي أو أي عقاب غير إنساني أو مذل، مشيرة إلى أن استثماراتها بمِصْر قد تعرضت للمصادرة من قبل السلطات، وتقدر هذه الاستثمارات وفق تقديرات متحفظة بما لا يقل عن 150 مليون دولار. وتقدمت "الجزيرة" في إبريل 2014 بمذكرة نزاع رسمية ضد مصر وفقًا لمعاهدة الاستثمار الثنائية بين قطر ومصر الموقعة في عام 1999، التي تنص على أن قطر مطالبة بالامتناع عن الشروع في التحكيم رسميًّا لمدة ستة أشهر لتمكين الأطراف من البحث عن التسوية. "الجزيرة" كانت الطرف الفاعل وصوت الثورة فى ميدان التحرير منذ اللحظات الأولى لحراك الشعب قبل خمس سنوات ضد المخلوع مبارك، حتى نصب الثوار لها شاشات عرض ضخمة فى قلب الميدان من أجل التفاعل مع الأحداث تعبيرا عن تلك الثقة التى تحظي بها لدى قطاعات الشعب المناهضة لحكم العسكر فى مواجهة أكاذيب وتلفيق وتزييف شاشات ماسبيرو وشركاه. ومنذ اللحظات الأولي للثورة ناصب النظام تلك المنصة العداء، وأصبحت الشبكة الإخبارية الأوسع انتشارا فى الوطن العربي هى العدو الأخطر على أنظمة العسكر فى ظل فشل مجاري فضائيات السيسي فى مجاراة القناة القطرية سواء فيما يتعلق بالمصداقية أو المهنية فى التعامل مع الأحداث أو حجم وشكل التغطية أو كونها صوت البسطاء والمهمشين والثوار بعيدا عن نوافذ الانقلاب. حملات العسكر والأذرع الإعلامية ضد "الجزيرة" لم تبدأ مع انقلاب السيسي على السلطة المنتخبة ودهس مكتسبات الثورة بمجنزرات الجنرال، وإنما تزامنت مع ثورة يناير وربما قبلها بقليل، حيث أصدر المخلوع مبارك قرارا فى 30 يناير 2011 بسحب تراخيص قناة الجزيرة، وقامت شركة نايل سات المملوكة للدولة بإيقاف بث القناة، واقتحمت قوات الأمن مكتب القناة في القاهرة وحطمت محتوياته وأغلقته. ولم يختلف تعامل المجلس العسكري برئاسة طنطاوي عن استاذه رغم اللجوءإلى المهادنة والتماهي مع بث القناة من أجل استرضاء الثوار إلا أنه أطلق أبواقه للنيل من الفضائية ومنح بلطجيته الضوء الأخضر لملاحقة العاملين بالقناة، حتى بلغ الصدام بين النظام وشبكة الأخبار ذروته مع انقلاب عبد الفتاح السيسي، في 3 يوليو 2013، حيث داهمت قوات الأمن مكتب قناة الجزيرة الإخبارية ومقر قناة الجزيرة مباشر مصر. قوات أمن السيسي لم تكتف بتسويد القناة، وقامت باحتجاز مدير "الجزيرة مباشر مصر" أيمن جاب الله ومدير مكتب الجزيرة الإخبارية عبد الفتاح فايد مع عدد من العاملين بينهم اثنان من مهندسي البث، قبل أن تفرج عنهم لاحقا، وأغلقت القناتين وقامت بمصادرة معداتهما وقطع إرسالهما من القمر الصناعي نايل سات. ومنذ هذا التاريخ دارت عجلة التضييق الأمني بحق القناة القطرية وأعضائها بأقصي طاقتها، فقامت مليشيات السيسي باعتقال مصور قناة "الجزيرة مباشر مصر" محمد بدر فى 5 يوليو 2013 أثناء تغطيته اعتداء قوات الأمن على مظاهرة رافضة للانقلاب في ميدان رمسيس، ووجهت له اتهامات ملفقة بالشروع في القتل وتعطيل حركة المرور وحمل سلاح أبيض وسلاح ناري، وبعد سبعة أشهر قضت محكمة جنايات القاهرة ببراءة بدر من التهم المنسوبة إليه. ومع مذبحة فض اعتصام رابعة العدوية فى 14 أغسطس 2013 اعتقلت قوات العسكر مراسل الجزيرة عبد الله الشامي لتسومه سوء العذاب تحت وطأة احتجاز لا يمت للإنسانية، ما دفعه في 21 يناير 2014 للدخول في إضراب عن الطعام اعتراضاً على طول فترة حبسه الاحتياطي من دون محاكمة، فى صمود بلغ 130 يومًا حتى أصدر النائب العام قرارًا بإخلاء سبيله في يونيو 2014 لأسباب صحية. وتواصلت آلة القمع العسكرية فى حصار الفضائية المنتمية إلى صف الثورة، فجاء الدور على شامخ الانقلاب لإصدار حكما في أكتوبر 2014 بالسجن المشدد 15 عاما بحق الإعلامي البارز أحمد منصور بتهمة "تعذيب محامٍ" أثناء ثورة 25 يناير 2011، قبل أن تفشل فى توقيفه فى ألمانيا بعد احتجازه من قبل الشرطة الألمانية لبضع ساعات بناء على توصية مباشرة من السيسي. ومع مساع المملكة العربية السعودية لتقريب وجهات النظر بين القاهرة والدوحة، اشترط العسكر إغلاق فضائية الجزيرة مباشر مصر، وهو ما استجابت له الشبكة القطرية لإظهار حسن النية وأنها تعادي الممارسات الفاشية لا الدولة المصرية، إلا أن العسكر في 29 ديسمبر 2013، أبرز من جديد الوجه القبيح واعتقل ثلاثة من صحفيي الجزيرة الإنجليزية بالقاهرة، وهم باهر محمد ومحمد فهمي والأسترالي بيتر جريستي، ووجهت لهم تهم دعم جماعة إرهابية وتزييف تسجيلات مصورة تهدد الأمن القومي، وهي تهم نفاها الصحفيون جملة وتفصيلا، قبل أن يصدر في 17 يونيو 2014 حكما صادم بسجن الأول عشر سنوات، و7 سنوات لكل من جريستي وفهمي، بالإضافة إلى السجن عشر سنوات غيابيا على موظفين آخرين في شبكة الجزيرة من جنسيات مختلفة، خُفف فيما بعد ل ثلاث سنوات. وبعد ضغوط دولية وتنازل عن الجنسية المصرية، أصدر السيسي في فبراير 2014 قرارا بالإفراج عن جريستي وترحيله إلى أستراليا، وفي سبتمبر 2015 صدر قرارا جمهوريا بالعفو عن 100 معتقل من بينهم صحفيّا الجزيرة باهر محمد ومحمد فهمي، من أجل تجميل صورته قبل المشاركة فى المؤتمر العام بالأمم المتحدة، ليبقي الصراع متواصلا بين العسكر وصوت الثورة، ويصبح التحكيم الدولي هو الخيار الأوحد أمام الفضائية القطرية لضمان حماية فريقها من جرائم الانقلاب.