في أكتوبر من العام المنصرم استرجع الشعب المصري تفاصيل الانقلاب العسكري الفاشي على مكتسبات ثورة 25 يناير واختطاف أول رئيس مدني منتخب في تاريخ الوطن المكلوم واستعادة الجنرالات السيطرة على مقاليد الحكم ومقدرات الدولة على وقع المجنزرات ودماء الأحرار، عندما جاءت الأنباء من أحراش القارة السمراء بحدوث انقلاب عسكري فى دولة "بوركينا فاسو". وبصورة كربونية.. وكأن العسكر يسيرون على المنهج المتعفن ذاته فى الافتئات على حق الشعب فى اختيار من يحكمه، وكأنهم سلطة فوق السلطة لها حق الوصاية، قرر الجيش البوركيني عزل الرئيس بليز كومباوري وحل كافة المؤسسات السيادية، وفرض حظر التجول، ثم خرج ليعلن على الشعب البسيط أن الجيش تدخل إزاء تدهور الوضع واتساع أزمة الوطن، وإنقاذ البلاد من السقوط فى هوة سحيقة، وكأن الانقلاب ينطق بلسان واحد فى بلدان العالم النائي. "الشعب البوركيني لم يجد من يحنو عليه" بهذا العبارة تهكم الفنان الساخر عطوة كنانة من الانقلاب العسكري الذى ضرب بوركينا فاسو، فى إسقاط على العبارات ذاتها التى يستعين بها الجنرالات من أجل تمرير استيلائهم على السلطة، وضرب الشرعية الحاكمة والوصول إلى الحكم على فوهة الدبابات ودماء الأحرار. وبنظرة عابرة على قارات العالم شمالا وجنوبا لا يمكن أن تقع عين مدقق على انقلاب عسكري فى أى من البلدان بعد أن تجاوز العالم المتحضر تلك الحقبة السوداء، باستثناء الدول الأكبر تخلفا وجهلا والأكثر فقرا، والتى لا يزال العسكر يمثل فيها دور الصنم الذى يعبد من دون الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. لذلك لم يسمع العالم بأسره فى السنوات الأخيرة عن وصول البيادة إلى رأس السلطة سوى فى مِصْر، ومن بعدها بوركينا فاسو فى مشهد أعاد للأذهان حقبة الانقلابات الدامية فى خمسينيات القرن الماضى، التى عفا عليها الزمان حتى فى أكثر البلدان قمعا وسلطوية، حتى جاء الدور على إحدي بلدان الفقر الإفريقي فى بوروندي ليعلن أحد جنرالات العسكر -الميجور جنرال جوديفرويد نيومبارى- السير على خطى كبير الانقلابيين فى العصر الحديث "السيسي"، بعزل الرئيس بيير نكورونزيزا والاستيلاء على السلطة. ومع تضارب الأنباء فى بوروندي وتوتر المشهد، قرر الجيش فى البلد الإفريقي الفقير أن يضرب المثل أن الظروف الاقتصادية الصعبة والأوضاع السياسية المضطربة والأزمات الأمنية المتوالية، ليست مصوغا للاستيلاء على السلطة وإنما هناك اختراع عرفته البشرية يكفى لتجنب البلاد ويلات الاقتتال وأنهار الدم وغباء البيادة. ولم تكد تمر 24 ساعة، حتى أعلن قائد الجيش البوروندى اليوم الخميس، أن محاولة انقلاب على الحكم فشلت، مشيرا إلى أن القوات الموالية للرئيس الشرعي بيير نكورونزيزا لا تزال تسيطر على الوضع. وقال قائد أركان الجيش الجنرال بريمى نيونجابو -فى بيان بثته الإذاعة الرسمية-: إن محاولة الانقلاب فشلت، والقوات الموالية للرئيس لا تزال تسيطر على جميع النقاط الاستراتيجية، موجها رسالة طمأنة للشعب البوروندي بأن الديمقراطية بخير، ولم يأت بعد من يرغب فى "أخذ سلم الديمقراطية معاه فوق". وتشهد العاصمة بوجمبورا توترًا أمنيًّا فى ظل محاولات قيادات الجيش الشرفاء السيطرة على الأوضاع، وملاحقة الخارجين على الشرعية، ومحاسبة المعتدين على حق الشعب فى اختيار من يمثله، ليعلن أن البلدان التى لا تزال تعاني من حكم العسكر خارج إطار الزمن ولم يعد لها وجود على خريطة العالم الحر. بوروندي هذا البلد الذى يشرب شعبه من مياه النيل قبل أن تصل إلى مصر، ويفتقر لأبسط مقومات الحياة الإنسانية ولا يملك بطبيعة الحال حضارة 7 آلاف سنة، رفض أن يدخل حظيرة الانقلابات العسكرية، وقرر آلا يعود إلى العصر الحجري، ويتهاوى إلى الوراء 50 عاما، أو يعلن الحرب على "الإرهاب المحتمل"، فى الوقت الذي قررت فيه القاهرة أن تتجاوز نور الثورة إلى ظلام الدولة البوليشية وتخلع عباءة أم الدنيا لتصبح "أد الدنيا".