دخل الصراع المحموم بين الثورة والثورة المضادة في بلدان الربيع العربي فصلا جديدا من أجل البقاء، مع قرب الإعلان عن جولة إعادة بين الثنائي الأبرز في الانتخابات التونسية منصف المرزوقي الرئيس الذي انتهت ولايته والمدعوم من الثوار، ومنافسه العجوز الباجي قائد السبسي ممثل الدولة العميقة ورجل الهارب بن على والمدعوم من الحلف "المصري - الخليجي" لإفشال الحراك العربي نحو مستقبل جديد. ويبدو أن السيناريو المصري في الرئاسية التي انقلب عليها العسكر، سيعاد بكافة تفصيلاته، مع بقاء النتيجة النهائية في علم الغيب، حيث يدافع المرزوقي ومن خلفه الثوار عن الحفاظ على آخر معاقل الربيع العربي من الانهيار في مواجهة المد العاتي القادم من بلاد النفط والراغب في تقويض الإسلام السياسي ومنع تقدم الحراك الثوري إلى دولة الأمراء، فيما يمثل السبسي ذراع الثورة المضادة لوأد الصورة الرائعة التي سطرها الشعب التونسي عندما دشن أولى ثورات ربيع عربي بات خريفه على الأبواب. وأسفرت النتائج الأولية للانتخابات التونسية عن اقتراب الإعادة بين زعيم حزب "نداء تونس" السبسي، والرئيس المنتهية ولايته المرزوقي، في حين أكدت حملتا المرشحين أن الجولة الثانية من الانتخابات بين المرشحين باتت مؤكدة. عمليات الفرز الأولية حتى الساعة الثامنة صباح الاثنين، كشفت عن حصول السبسي على 41% من الأصوات والمرزوقي على 34% بعد فرز 40% من أصوات الناخبين، في حين حل ثالثاً حمة الهمامي بحصوله على 8%. وجاء في المرتبة الرابعة سليم الرياحي بحصوله على 5%، بينما حل خامساً الهاشمي الحامدي بحصوله على 4%، وتوزعت 8% على باقي المرشحين، استناداً لفرز رسمي. وأعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الرئاسية التونسية، في مؤتمر صحفي أعقب إغلاق باب التصويت أن نسبة المشاركة في الانتخابات بلغت 64.6% مؤكدة أن أعلى نسبة مشاركة بدائرة محافظة تطاوين، في أقصى الجنوب التونسي، حيث بلغت 73.2%، في حين سجلت أدنى نسبة بدائرة جندوب، شمال غربي تونس، ب52.8%. ومع تشابه السيناريو المصري-التونسي في ماراثون الرئاسية، عندما حمل الرئيس الشرعي محمد مرسي على عاتقه مهمة الدفاع عن الثورة المصرية في مواجهة الهارب أحمد شفيق ابن المخلوع مبارك البار ورجل الإمارات الوفي، وتكاتف الثوار في مصر للمرة الأخيرة من أجل إنقاذ ملحمة ميدان التحرير من براثن العسكر، إلا أن النهاية السعيدة على غرار أفلام "الأبيض والأسود" لم تأت بعد رغم فوز مرسي بالرئاسة واعتلاء سدة الحكم عام من تاريخ مصر، غير أن انقلاب العسكر أعاد البلاد إلى المربع صفر، ودشن حراكا ثوريا متناميا في ربوع المحروسة. إلا أن هناك 5 اختلافات تبدو واضحة للعيان في المشهد التونسي اليوم عن نظيره المصري في 2012، يجعل التكهن بالقادم في بلاد ثورة الياسمين من غير المنطقي في ظل دخول عوامل جديدة على المشهد تمنح كل طرف في المعادلة أفضلية نسبية: العجوز السبسي رغم التشابه الواضح في الأدوار بين شفيق المصري والسبسي التونسي، إلا أن انتخاب مرشح نداء تونس يعد أمرا مثيرا للدهشة خاصة وأن الرجل قد جاوز ال 88 من عمره، مما يعني أن ينهي ولايته قبل أن يكمل مئويته ب 7 أعوام فقط، وهو ما يمثل علامة استفهام كبيرة عن موقف الشباب التونسي المفجر لثورات الربيع العربي من هذا اللغز، فضلا عن مدى قدرة الرجل التسعيني على إدارة شئون الدولة والتحرك على نطاق واسع لاستعادة ما خسرته بلاد الزيتونة منذ 2011 وحتى اليوم. الرئيس التوافقي في مصر وعلى الرغم من أن الدكتور مرسي كان ممثلا للثورة ومرشحا لأحد أبرز الوجوه الفاعلة في ميدان التحرير "جماعة الإخوان المسلمين" إلا أنه بقي محسوبا على التيار الإسلامي ومرشحا عن فصيل واحد، إلا أن الرئيس المرزوقي يعد وجها توافقيا مرحبا به من قبل التيار الإسلامي التونسي وعلى رأسه حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي، كما أنه محسوب على اليسار المعدل في الدولة ويحظي بترحيب واسع من جانب الليبراليين وهو ما يجعله رجلا مناسبا للجميع بعيدا عن قواعد عاصري الليمون أو أخف الضررين. خبرات سابقة لم يتوافر لكلا المرشحين في مصر اختبار السلطة أو الظهور في ثوب الرجل الأول قبل انتخابه، إلا أن الظروف توافرت كاملة للمرزوقي الذي اعتلى سدة الحكم في بلاده وأبلى بشهادة الجميع بلاء حسنا وتجاوز ببلاده إلى بر الأمان واحدة من أصعب المراحل في تاريخها، مكتسبا ثقة واحترام الجميع بالداخل والخارج، وهو ما يمنحه أفضلية واضحة على حساب منافسه العجوز. بلاد النفط في مصر ومع تسارع المشهد منذ الثورة وحتى الانتخابات لم يتمكن أمراء الخليج من قراءة السيناريو المتوقع بشكل متأنٍ، إلا أن قطار الانتخابات عندما حط رحاله في تونس كان انقلابيو النفط قد اكتسبوا خبرة واسعة في مصر ومن وراءها ليبيا وباتوا يتحكمون بشيء أو بآخر في مجريات الأحداث، لذلك دخلوا الملعب التونسي بثقل أكبر ووقفوا بكل دعم وقوة خلف السبسي، موفرين الإمداد المادي والمعنوي واللوجيستي للرجل العجوز من أجل نجاح الثورة المضادة وإعادة إنتاج نظام استبدادي جديد، يسقط معه أخر المعاقل الصامدة في بلدان الربيع العربي مع ترك باقي المعارك الدائرة في سوريا وليبيا واليمن لتنهش الثورة وتأكل ما تبقى منها وتنهك مقدراتها من دون التنازل عن التدخل في الوقت الحاسم حال مالت الجبهة ناحية الثوار، هذا الدعم اللامحدود يرجح كفة السبسي أمام مرشح تدعمه المبادئ وتحركه الرغبة في التغير إلى الأفضل وبناء دولة ديمقراطية حديثة. ورقة الدين يبقى الدين هو الورقة التي لا ينساها الفصيل المعادي له على طول الخط، والتي لا بد أن يلعب عليها ويرتدي ثوب الدعاة ويحشد من خلفه أئمة الدنانير وخطباء السلاطين وشيوخ السبوبة، لذلك حرص السبسي على مغازلة التيار الإسلامي بالحديث عن أهمية التكاتف من أجل البناء وغيرها من عبارات الاستهلاك المحلي دون أن يغفل أهمية الضرب بيد من حديد على يد المتطرفين، ليوجه الرأي العام إلى وجود تيار إسلامي معتدل وآخر متطرف، وهو ما قد يمثل رؤية السبسي حال نجاحه في التعامل مع خصومة من أبناء هذا التيار في ظل وجود خانة التطرف، خاصة وأن القائمة معدة من قبل على عين الإمارات، غير أن المرزوقي في المقابل يحظى بالفعل بتأييد وقبول تيار الإسلام السياسي الذي يرى فيه رجل المرحلة والجدير على مواصلة عمله بكفاءة من أجل تجاوز آثار الثورة على البلاد والدخول في مرحلة البناء. وتبقى تونس المعقل الأخير الصامد في بلدان الربيع العربي في ظل الانقلاب المصري، والاحتلال الحوثي في اليمن، ونبتة حفتر الشيطانية في ليبيا، وبقاء السفاح بشار في سوريا، وتلبية الشباب التونسي لمرشح الثورة بات أمرا حتميا من أجل تجاوز مرحلة بن علي للأبد، وتأكيد أن تونس حقيقة تختلف عن الكل وتسبق الجميع.