في الوقت الذي تواجه فيه مصر شحا مائيا غير مسبوق، مع استكمال أثيوبيا بناء سد النهضة، دون اتفاق ملزم مع القاهرة أو الخرطوم، وحجز أكثر من 32 مليار متر مكعب من حصة مصر المائية سنويا، خلف بحيرة السد، ما يعرض مصر لمجاعات وعطشا مائيا كبيرا، جاء قرار حكومة السيسي بوقف إحدى المشروعات القومية بتحلية مياه البحر، لتعويض نقص مياه النيل بفعل بناء سد النهضة الإثيوبي؛ مثيرا للاستغراب والدهشة، لما يمثله من خطر على المصريين، الذين يعانون نقصا حادا في كميات المياه المخصصة لمياه الشرب والزراعة والاستخدام الصناعي والتجاري. القرار الذي بررته السلطات بتخفيض النفاقت العامة للدولة، وفقا لاشتراطات تمويل صندوق النقد الدولي لمصر، بينما رآه بعض الخبراء بأنه مخطط شيطاني، يدفع بالمصريين لقبول عرض تسليع المياه، الذي تلمح إليه إثيوبيا منذ سنوات. وتواجه مصر أزمة شح مائي كبيرة، مع ندرة الأمطار على أغلب الأراضي المصرية وسقوطها بنسب ضعيفة على السواحل الشمالية؛ زاد من تفاقمها وخطورتها في الوقت الحالي وبالمستقبل، عجز حكومة السيسي، عن التوصل مع إثيوبيا لاتفاق يحفظ لمصر حقها في حصتها التاريخية من مياه النيل والبالغة 55 مليار متر مكعب سنويا والتي لم تكن تكفي حاجة البلاد من الزراعة والشرب والتصنيع. وهي الحالة الخطيرة التي عبر عنها تحذير وزير الري المصري، هاني سويلم، بقوله في 3 فبراير الماضي، من اقتراب بلاده من خط الشح المائي، مع أزمة مفاوضات سد النهضة وعدم الوصول لاتفاق مع أديس أبابا حول عمليتي الملء والتشغيل. وفي العام الماضي، بلغ نصيب المصري من مياه الشرب والزراعة والتصنيع إلى حده الأدنى مسجلا 530 مترا مكعبا سنويا، فيما من المتوقع أن يتراجع إلى أقل من 500 متر مكعب سنويا بنهاية العام الحالي، وهي نسب مرشحة للنقصان مع استمرار أزمة مياه النيل. تلك الحالة المزرية من العجز المائي، تثير التساؤلات والشكوك حول أسباب تخارج الحكومة المصرية من تمويل مشروع تحلية مياه البحر رغم إصرارها عليه لسنوات واستخدامه بملف الدعاية للتقليل من مخاطر ملف المياه وأزمة سد النهضة. وهو ما يحمل الكثير من التحديات المستقبلية في الأيام المقبلة، مع إصرار أثيوبيا في السير بنفس مسار بناء السدود على النيل الأزرق . ووسط تأزم المفاوضات بين أطراف أزمة مياه النيل، القاهرةوالخرطوموأديس أبابا، وتعنّت الأخيرة في توقيع ملزم حول ملء حوض السد وتشغيله وحصتي دولتي المصب، وقيام أديس أبابا للعام الرابع على التوالي بملء حوض السد رغما عنهما بالخصم من حصتهما، فقد قرّرت حكومة السيسي، التخلّي عن مشروع تحلية مياه البحر الذي اتخذته وروّجت له قبل سنوات، كحل بديل لشح مياه النيل. التخارج الكارثي ووفق خطة لترشيد الإنفاق الحكومي بطلب من صندوق النقد الدولي، في موازنة العام (2024-2025) بحيث لا تتجاوز حد تريليون جنيه، جّمدت حكومة السيسي، مشروع تحلية مياه البحر، مُعلنة التخارج من تمويل مشروعات محطات إنتاج مياه الشرب من محطات تحلية مياه البحر، بحسب تقرير وزارة التخطيط 11 مارس الجاري. وكان السيسي، قد أعلن عن إنشاء أكبر محطات لتحلية مياه البحر في العالم تحت إشراف الهيئة الهندسية للجيش، في نوفمبر 2017، كبديل لمياه النيل على خلفية الإعلان عن فشل مفاوضات سد النهضة مع إثيوبيا. المثير أن المشروع العملاق اعتبره السيسي أمنا قوميا لمصر، وكان مقررا أن يستمر حتى 2037 وبتكلفة تصل 900 مليار جنيه (الدولار حينا نحو 16 جنيها)، وفقا لتصريحات رسمية، بل إنه كان مقررا أن يتم عقد مناقصة عالمية الشهر الجاري من أجل إنشاء 6 محطات جديدة. اللافت هنا أنه في ذات اليوم الذي أعلنت فيه وزيرة التخطيط، هالة السعيد، عن قرار الحكومة بترشيد الإنفاق بملف تحلية مياه البحر، أعلنت وزارة الإسكان أن الوزير عاصم الجزار، يتابع موقف تنفيذ محطات التحلية ضمن الخطة الاستراتيجية لتحلية مياه البحر، حتى عام 2050. بل إن الوزير، ووفقا لما نقلته صفحة الهيئة العامة للاستعلامات ، قال: إنه "تم وضع خطة استراتيجية لتحلية مياه البحر حتى عام 2050، بطاقة 8.8 مليون م3 يوميا، عبر 6 خطط خمسية، تستهدف الأولى إنتاج 3.4 مليون م3 يوميا، ضعف طاقات محطات التحلية الموجودة بمصر". وهو ما يشير إلى تضارب التصريحات الحكومية بين ما أعلنته وزيرة التخطيط، وبين ما صرح به وزير الإسكان، في الخبر الذي تناقلته صحف ومواقع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية بعنوان "وزير الإسكان يتابع موقف تنفيذ محطات التحلية ضمن خطة تحلية مياه البحر". كما أن ذات الخبر أشار إلى أن نائب وزير الإسكان، سيد إسماعيل، اجتمع مع صندوق مصر السيادي، وأعضاء البنك الدولي، من أجل تجهيز مستندات الطرح لتنفيذ محطات التحلية بالتعاون مع مؤسسة التمويل الدولية، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، ما يشير إلى احتمالات الحصول على قروض جديدة لتنفيذ مشروعات التحلية. يشار إلى أنه وعبر سواحل مصر المطلة على البحر الأحمر وخليجي السويس والعقبة بجنوب سيناء توجد عدة محطات تحلية لمياه البحر، التي قرر السيسي، التوسع بها في مقابل أزمة مياه النيل، وإنشاء أكبر محطات تحلية من مياه البحر المتوسط على ساحل مصر الشمالي الغربي، والساحل الشمالي الشرقي بشمال سيناء أيضا. ولأن الزراعة في مصر تستهلك 80 % من حصة البلاد من مياه النيل، و10% لأغراض الشرب، والنسبة الباقية للأعراض التجارية والصناعية، فقد أعلنت حكومة السيسي عن استهدافها إنتاج مليار متر مكعب مياه محلاة حتى عام 2037، عبر إقامة أكبر محطات للتحلية بتكلفة 50 مليار جنيه وتم تنفيذ محطات تحلية بمطروح والضبعة تنتج 100 ألف متر مكعب يوميا، مع محطات بجنوب سيناء الواحدة تنقى 20 ألف متر مكعب يوميا، وتنفيذ أكبر محطة تحلية في العالم بالعين السخنة فبراير 2019، بطاقة 136 ألف متر مكعب يوميا، عبر محطتين تغذيات المنطقة الاقتصادية بشمال غرب خليج السويس، بتكلفة 2.5 مليار جنيه، بجانب 3 محطات بطاقة 150 ألف متر يوميا بالجلالة، وشرق بورسعيد، والعلمين الجديدة. وذلك إلى جانب الإعلان عن تنفيذ 14 محطة لتحلية مياه البحر، بطاقة إجمالية 476 ألف متر مكعب يوما، بتكلفة 9.71 مليار جنيه، بمحافظات مطروح، والبحر الأحمر، وشمال، وجنوب سيناء، وبورسعيد، والدقهلية، والسويس، والإسكندرية. آخر التصريحات المعلنة عن إنشاء محطات تحلية مياه البحر كان في 21 ديسمبر الماضي، حول طرح مناقصة تنفيذ 6 محطات على تحالفات عالمية، خلال مارس الجاري، لتشغيلها بالعام المالي 2025-2026، لتنتج نحو 900 ألف متر مكعب يوميا، بتكلفة إنشاء لكل متر مكعب بين 900 و1000 دولار وإجمالي استثمارات تصل إلى 900 مليون دولار. وأثار قرار الحكومة بوقف الإنفاق على مشروعات تحلية مياه البحر الانتقادات ، خاصة أن القرار يأتي في ظل تأزم مفاوضات سد النهضة الجارية لأكثر من 10 سنوات بين مصر والسودان وإثيوبيا. ووفق تقديرات استراتيجية، فإن أزمة نقص المياة بمصر، لن تحلها محطات تحلية مياة البحر أو مشاريع تنقية مياه الصرف أو تبطين الترع وترشيد الاستهلاك، فالأزمة أكبر من ذلك، وتستوجب عملا سياسيا بل وعسكريا لإجبار الطرف الأثيوبي على الالتزام بالاتفاقات الدولية الملزمة، بحصص مائية مقررة للمصريين. لكن نظام السيسي استمر في استغفال المصريين، عبر إعلام المخابرات بتنويمهم بمشاريع غير مجدية ولن تحل الأزمة الحقيقية، بل قد تمهد لتسليع مياه النيل ودفع الأموال لأثيوبيا مقابل حصص مصر المائية، وهو ما يمثل قمة الخنوع والذل ، من أجل نظام خائر لا يقدر قيمة الأمن القومي للبلاد، ويتماهى في خطط فاشلة لتعويض مياه النيل التي لا تعوض بالأساس. فيما يرى خبراء أن مشروع سد النهضة، يكشف بجلاء عن مخطط هدم وتركيع مصر، بمشاركة حاكمها وتواطؤ مؤسسات دولية. ولعل المستغرب أن يقبل صندوق النقد الدولي بوقف مشروع تحلية مياة البحر، بداعي ترشيد الإنفاق، ويقبل الاستمرار في بناء وإنشاء (المونوريل)، فالأول يتعلق بحياة ومستقبل 106 ملايين مصري، بينما الثاني لا يخدم إلا أطرافا مترفة وأصحاب السلطة والثروة والسلاح، وخادميهم، وسكان العاصمة الإدارية الذين لن يزيد عددهم بأفضل الأحوال على ال10 ملايين نسمة. بينما تحتاج مصر لتحلية مياه البحر؛ حوالي 25 مليار دولار سنويا للحصول على 25 مليار متر مكعب مياه صالحة ليس بالضرورة للشرب ولكن للزراعة والإنتاج الحيواني، والسؤال هنا: كيف، ومن أين تحصل على هذا المبلغ سنويا مع التزاماتها بسداد أقساط وفوائد القروض؟. ولعل الأمر يلفت أيضا إلى مشاريع ما زالت في الأفق القريب، تتعلق بتسليع مياه النيل ودفع أموال لأثيوبيا لتسمح بمرور مياه النيل لمصر، إذ إن المفاضلة بين مياه البحر المحلاة وبين مياه النيل، قد تيسر أمر دفع أموال لأثيوبيا مقابل السماح بالمياه لمصر، وهو المخطط المطروح منذ سنوات من قبل البنك الدولي وإسرائيل وواشنطن، وهو ما قبله السيسي ويعمل وفق أجنداته للوصول لتلك النقطة.