"آذان مصغية وعيون شاخصة، أعناق مشرئبة وقلوب تنصت بإيمان، الصغير والكبير والمتعلم والأمي، الكل متحلّق حول كرسي ليستمع إلى الخواطر الإيمانية للشيخ محمد متولي الشعراوي، يحدثهم بلغتهم البسيطة، لا يقاطع حديثه إلا ابتسامات الجمهور أو مناجاة لله العلي العليم، أو بكلمة من كلمات "الله". هكذا كانت الصورة التي تعوّدت عليها معظم بيوت مصر والعالم العربي كل جمعة، طيلة 25 عاما، أطلّ فيها الشيخ الشعراوي على البيوت من خلال شاشات التلفاز في عام 1973 حتى وفاته في 1998، عن 87 عامًا، ليجمع بأسلوبه السهل البسيط وبحديثه الشائق قلوب المصريين والعرب. أمّا اليوم ومع المصائب المتلاحقة فوق رأس الأمة عربًا وعجمًا، فقد غابت شمس الشعراوي لكن حضرت كلماته، خصوصا في لطمة صفقة القرن التي أعلنها الصهيوني الأمريكي ترامب، وجرى الإعداد لها منذ ثلاث سنوات، وهي فترة زمنية كافية لتدق على أبواب وعي العرب والمسلمين بالخطر، وسؤال الشعوب الذي لن يجد جوابا لدى حاكم عربي أو تابع يرتدي مسوح الدين يطبل له: ما الخطط البديلة؟! إلا أن مهتمّين بأحاديث الشيخ محمد متولي الشعراوي وجدوا ضالتهم بخصوص رأيه في صفقة القرن، من خلال مقطع فيديو قديم، سجل فيه فضيلته تفسير قوله تعالى "وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا"، من سورة الأعراف . خميرة عكننة يقول الشعراوي مفسرا عن رب العالمين: "فتجدهم منعزلين عن الناس منبوذين بينهم، كثيرا ما تُثار بسببهم المشاكل، فيشكو الناس منهم ويقتلونهم، وقد قال تعالى: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ".. وهكذا سيظل اليهود "خميرة عكننة" ونكَدٍ بين سكان الأرض إلى يوم القيامة، وهذه الخميرة هي في نفس الوقت عنصر إثارة وإهاجة للإيمان والخير؛ لأن الإسلام لا يلتفت إليه أهله إلا حين يُهَاج الإسلام، فساعة أنْ يُهَاجَ تتحرك النزعة الإيمانية وتتنبّه في الناس. إذن فوجود اليهود كعنصر إثارة له حكمة، وهي إثارة الحيوية الإيمانية في النفوس، فلو لم تُثَر الحيوية الإيمانية لَبهتَ الإسلام". مضيفا: "وهذه هي رسالة الكفر ورسالة الباطل فلوجودهما حكمة؛ لأن الكفر الذي يشقى الناس به يُلفِت الناس إلى الإيمان، فلا يروْنَ راحة لهم إلا في الإيمان بالله، ولو لم يكُنْ الكفر الذي يؤذي الناس ويُقلق حياتهم ما التفتوا إلى الإيمان. وكذلك الباطل في الكون بعض الناس يُزعجهم، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه". وتابع فضيلته يرحمه الله: "وبعد أن أسكنهم الله الأرض وبعثرهم فيها، أهاج قلوب أتباعهم من جنود الباطل، فأوحَوْا إليهم بفكرة الوطن القومي، وزيَّنُوا لهم أولى خطوات نهايتهم، فكان أن اختاروا لهم فلسطين ليتخذوا منها وطناً يتجمعون فيه من شتى البلاد". ويضيف: "وقد يرى البعض أن في قيام دولة إسرائيل وتجمّع اليهود بها نكاية في الإسلام والمسلمين، ولكن الحقيقة غير هذا، فالحق سبحانه وتعالى حين يريد أن نضربهم الضربة الإيمانية من جنود موصوفين بأنهم (عِبَاداً لَّنَا..)، يلفتنا إلى أن هذه الضربة لا تكون وهم مُفرّقون مُبعْثرون في كل أنحاء العالم، فلن نحارب في العالم كله، ولن نرسل عليهم كتيبة إلى كل بلد لهم فيها حارة أو حي، فكيف لنا أن نتتبعهم وهم مبعثرون في كل بلد شِرْذمة منهم؟". وأوضح الشيخ الشعراوي، رحمه الله، "إذن ففكرة التجمُّع والوطن القومي التي نادى بها بلفور وأيَّدتْها الدول الكبرى المساندة لليهود والمعادية للإسلام، هذه الفكرة في الحقيقة تمثل خدمة لقضية الإسلام، وتُسهِّل علينا تتبعهم وتُمكّننا من القضاء عليهم؛ لذلك يقول تعالى:* فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً".. أي: أتينا بكم جميعا، نضمُّ بعضكم إلى بعض، فهذه إذن بُشرى لنا معشر المسلمين بأن الكَرَّة ستعود لنا، وأن الغلبة ستكون في النهاية للإسلام والمسلمين، وليس بيننا وبين هذا الوعد إلا أن نعود إلى الله، ونتجه إليه كما قال سبحانه: "فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ". مضمون الصفقة ولا حديث اليوم في الإعلام العربي والعالمُ منشغل بفيروس كورونا؛ إلا عما يسمى "صفقة القرن"، وهو المصطلح الذي استقرّ عربيا لتوصيف المشروع الأمريكي الجديد المقترح لتصفية القضية الفلسطينية. ولا يبدو مضمون الصفقة أهم ما في الصفقة، بل يبدو التوقيت ووزن الفاعلين أهم ما يميز هذا الحدث الذي يبدو حدثا تاريخيا في مسار الصراع العربي الصهيوني والإسلامي الصهيوني، منذ احتلال الأرض الفلسطينية في 48. التوقيت هام جدا، وهو شديد الارتباط بوزن الفاعلين الرئيسيين في المشهد المحدد لطبيعة الصراع حول القضية الفلسطينية. من جهة أخرى، لا تبدو محددات مخارج هذا الصراع مقتصرة على مجال الأرض المحتلة، بل يمكن القول اليوم على ضوء مآلات الربيع العربي إن مصير القضية الأمّ لا يتحدد داخلها بل خارجها. ليست الصفقة في البداية مشروعا نزل من السماء، بل هي امتداد طبيعي لمسارات التفاوض بين طرفي النزاع وبين رعاة هذا التفاوض، وعلى رأسهم مجموع الدول العربية من جهة والولايات المتحدةالأمريكية من جهة أخرى. لا يمكن بذلك فصل صفقة القرن عن اتفاق كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني في عصر الرئيس السادات، ولا يمكن فصلها كذلك عن مؤتمر أوسلو الشهير ولا عن بقية القرارات والمؤتمرات التي سجلت تاريخ الصراع بين كيان الاحتلال من ناحية والكيانات الرسمية العربية من ناحية أخرى.