ثائر في الميدان (2) حاول “ثائر” أن يفتح عينيه فإذا بضوء الشمس الساطع يصيبهما بقوة فلا يمّكِنه من فتحهمها إلا قليلا؛ وجد نفسه مضطرا أن يدير ظهره لمبعث الضوء، حتي صار ينظر إلي الخلف؛ فإذا به في صحراء قاحلة لا عشب فيها ولا ماء، وهو ملقى فوق كثبان رملية لا يدري كم نام أو متى استيقظ..! تمالك نفسه وهمّ بالقيام..فإذا بخطواته ضعيفة متعثرة؛ نظر أسفل منه..فإذا بقيود حديدية تمسكه من قدميه تحد من حركته بحيث لا يكاد يمشي خطوات قليلة إلا ويسقط متوجعا متألما.. سيطرت علي تفكيره فكرة “أن يصل”…. ومن بعيد تراءت أمامه واحة تشي بالماء والراحة والكلأ..فعزم أمره ورسف في إساره يجر قدميه ومعهما جسده الذابل المنهك خائر القوى..وليس أمامه سوى صورة الواحة وحلم الظفر برشفة الري… ***** حلّ عليه الليل وهو علي حاله تلك..يمشي قليلا، ويتعثر ويسقط كثيرا، ويسرع نادرا..وقد دثّر الغمام قلبه بظلام مثيل لما أصاب كبد السماء، فأصبح هو والعتمة نظيرين، فقط أحدهما زائر عابر لسويعات ويرحل، أما هو..فعتمة قلبه سرمدية لم تكد تزوره حتي لبثت ولم تبرح.. وبالكاد تمكّن من الوصول، ومع ذلك فلم يكن معه من معنى السعادة شيئا قد تبقى ليستدعيه؛ فقد حملته مكابدة الطريق علي التناسي والتغافل عن كل يمت للرضى والقرار من وشاج.. قويا كان أو ضعيفا.. فعاش اللحظة بأنه قد وصل وانتهى..هذا كل ما في الأمر..! ولم يكد يلقي بظهره جانبا حتى شعر بأسنان قاطعة توخزه بحدة، وكلما حاول أن يجتنبها إذا بغيرها يلهبه ويدمي جلده..فلم يجد بدا من أن ينتفض ليتبين الأمر، وإذا به يجد ظهره وقد أُسند إلي وادٍ من الأعشاب الخشنة جافة الملمس..وإذا بكل ما حوله من نباتات ابن للبيئة الغير مأهولة..من ذوي تلك الهيئة الغليظة الوعرة..! أُسقط في يده، وهو يري حلم “وصوله” قد بدأ في حصاد الشوك والألم، وتنهد بقلب محترق، فتذكر جفاف حلقه، فهمّ بإخراج الدلو من أسفل البئر ليروي ما به من ظمأ، ومع أول رشفة اكتشف أن البئر ليس عذبا بل مالحا أجاجا، صرخ بمليء ما فيه حسرة وكدرا..ثم اندفع يركض ويركض وكأنه يعالن في الكون بأسفه ورفضه لكل ما يجد.. أسلمه الركض إلي التعثر والسقوط ثانية، فقد كان نسي أو تناسى تلك القيود التي مازالت تمسك بأهدابه وتضغط عليها..فمثلها في الأسى كالعشب والبئر والواحة..وقد ابتلي بصحبتها حتي أنها لم تتركه في لحظة “الوصول” تلك التي لم يجد عندها للراحة مرفأ أو للضنك منتهى.. ومن شدة الألم ضمّ ساقيه بين ذراعيه ووضع بينهم رأسه وأخذ يبكي ويبكي..بكي حسرة تارة، وألما تارة، وندما مرات ومرات.. كان الندم هو الأكثر حضورا بين المشاعر جميعها؛ في حين أنه ندم غير واضح المعالم تحيط به هالة ثخينة من الغموض تجعل منه لغزا عصيا علي الفهم.. يقذف في ذهنه معنى الندم؟! ..نعم..! لكن..منذ متى؟!..وعلى أي شيء؟! وهل علة وجوده من النوع القابل للإصلاح..أم هو هنا ليمزج ما بقى من الحياة بمزاجه المؤرق البائس فقط..؟! اعتلجت كل هذه الأفكار في نفس “ثائر” وهو يمسح الدمع عن عينيه..ويجر ما بقي بداخله من قوة، وقد عزم على العودة من جديد من حيث كان قد بدأ..علّ أوبته تلك تضع يديه على ملمح أكثر جلاء لما اضطرب في نفسه من ألم، وما حملته نفسه من حسرة وشجن.. ***** وهو يلتقط أنفاسا يظنها الأخيرة عاد لتوه إلى محطة انطلاقه السابقة، وقد بدأت قدماه تخطو فوق نفس الكثبان الرملية التي استيقظ من نومته عليها سابقا، فأسند رأسه عاليها، وبدأ يتطلع أمامه وهو يستعيد في ذاكرته كل ما حدث ليتبين أمره، ويفقه موقع الخطأ ليصلحه..وإذا بشاع الشمس يضرب عينيه من جديد..وهنا كاد أن يفطن إلي بعض مما حدث، ففي لفتة من شعاع الشمس سابقة، أشاح هو برأسه عنها، متبرما من وقع هالة الضوء علي وجهه ملتفتا عنها إلى ناحية أقل معاناة، رافضا أن يحمل عينيه علي التحمل قليلا، ناسيا أن للضوء ضريبة عليه أن يؤديها لا أن يفر منها وإلا..يكن له مثل ما كان، ف”يصل”..ولكن إلى حيث لا يريد أن “يصل”؛ فالناحية الأخرى كما أنها أقل ضوءا فهي كذلك أفقر عشبا وأندر ماء… وعندما وصل بفكره إلي تلك النقطة ظنّ أنها هى كل ما كان يبحث عنه، ومن ثم فقد انطلق في الطريق الجديد يزحف في قيوده باتجاه شعاع الضوء، متحاملا على شكوى جسده وأنين أوجاعه..انطلق يركض في إعساره..ونسي أن يترك خلفه تلك الغيمة التي إلتبست بقلبه، فرغم أنه فارق الظلام وانطلق نحو الضوء، إلا أن ظلاما عشش في نفسه قد صحبه ومازال علي عهده وفيا باقيا معه.. عند مرفأ “الوصول” كان مرهقا منهكا من الرحلة..أسند رأسه إلي العشب ناعم الملمس، وأكل من الثمار النضرة، وشرب من البئر العذب حتي ارتوى..ثم أطرق..ووجم.. فمازال جوفه مشبعا بمذاق الحسرة..! ولغز الندم باق في نفسه لم يبرحها..! هل أخطأ الطريق في تلك المرة أيضا..؟! ولكن..المرفأ الذي وجده لا يدل إلا علي صحة الطريق وصواب الرحلة.. أمر ما..مازال باقيا..عليه أن يفك طلاسمه، ويحل أحجيته.. ***** ومرة أخرى نهض من جديد..عازما العودة من حيث بدأ..فأرق قلبه لا يقل ألما عن ظمأ وجوع جسده، ولذا فلا مناص من أوبة ولو للمرة المائة.. وعند نقطة الانطلاق وصل مكبلا بأغلاله كما كان، ولكنه في تلك المرة امتلأ عزما أن يكشف السر وأن يدرك ما خفي عنه وغاب في المرتين السابقتين.. وبالفعل..فحص مكان رقدته الأولى فإذا بمفتاح إساره ملقى على بعد لا يزيد عن مقدار الكف..وقد ظل هو يناوىء قيده طوال الوقت لأن غيمة قلبه الحزين، وكدر نفسه المؤرقة قد حدوا به أن ينطلق دونما تروٍ أو تبصر..غافلا أن الدرب إلي المرام الصحيح..يحرر صاحبه لا يمشي به ذليلا منكسا.. وعلي مقربة من نقطة الانطلاق..وبعد أن سار حرا معززا، إذا به يلحظ على الجانبين في طريق الضوء أحبالا غليظة ممتدة، يمكنها أن تحمل يديه كمتكأ حتى يصل…ناهيك عن الظلال المترامية التي تحجب الضوء الوهّاج المؤرق، وتسمح له فقط به بعد أن يتحلل ويختفي لهبه فينعش الأفئدة وينير العتمة بدلا من أن يلهب الرؤوس أو يحرقها..كل هذا بخلاف كؤوس الماء..وبعض الثمار هي نفسها..من مثل ما وجد في واحته من قبل.. كل هاتيك الأشياء كانت على مقربة منه دون أن يراها، فقد صاحب غيمة مكفهرة إلتحفت بنفسه وامتدت إلي عينيه فحجبت عنه طوال الطريق كل ما به معينات كان يمكنها أن تجعل من رحلته سياحة سعيدة ممتعة بعيدة عن كل هذا الشقاء والعنت التي عالجه فيها… إن الرحلة لا يكفيها فقط أن تكون صوب المرفأ الصحيح، ولكنها كذلك لابد أن تكون ..رحلة تحمل في طيها كل ملامح الوصول..! في عالم الفكر..فالرحلة ممتعة لأنها الطريق الموصل إلي المقصود.. وفي عالم الأرقام والحساب، من الخطر أن يقصر المرء بهجة عمره علي مجموع تلك السويعات التي يتحقق له فيها رجاء أو مرام، فإذا غٌضّ القلب عن استنشاق العبير العليل المنبعث طوال الطريق، فإنه بذلك سيظل لاهثا لا يسترد أنفاسه إلا بعدد مكون من مجموع نقاط الوصول…. فحبس الأنفاس حتي الوصول اختناق غير مسوّغ.. عاود صاحبنا المسير مستمتعا..مفارقا للغيمة التي أرقته عمرا من قبل..عازما على التنبه إلي كل موضع جمال..وكل بارقة بأمل.. ***** وبعد حلم مر عجولا..أفاق “ثائر” من نومه، ليجد نفسه في غرفته لم يبرحها، ولكن ملامح الطريق الذي عزم السير فيه قد أسرعت إليه تكشف له عن بعض من أسرارها في منامه..حتى لا يضع منه الكثير من الوقت وهو يستنطقها أو يفتش عن كنهها.. وإذا بآذان الفجر قد حان، يخبره بأن بدء يومه الطويل قد آن، وبأن السبيل لحمله قد استعد..وبأن مرفأ النصر اللائح من بعيد..قد أفصح عن طريق يحمل في ذاته نفس سمات نقطة “الوصول”.