من صفات المؤمنين وقت الشدائد أنهم يقومون على الحق لا يضرهم من خذلهم، وإن بقي العبد وحيدا، يرى أحدهم الخير كل الخير أن يلقى الله موفيا بذمته وعهده ولو كان وحده: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء: 84] {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] كل امرئ بما كسب رهين، يحمل همّ نفسه، وما سيسأل عنه وما يقوله يوم القيامة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105] كذلك من صفات المؤمنين: التراحم فيما بينهم، وهي في وقت الشدة آكد ولا مبرر للتفريط في هذا بأي حجة، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أحد، وقد كان فيها ما كان، يذكره الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وفي وصفه تعالى للمؤمنين بالشدة على الكافرين لم ينس سبحانه أن يصف بالرحمة فيما بينهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ففي هذه الأوقات العصيبة ما أحوج العبد لود أخيه، ورفقه به، وحنانه، فلعلها تكون آخر لحظات بينهم في الدنيا، ولعلها تكون سببا في تثبيت الإيمان في قلبه، أو دحر وسواس للشيطان، أو بث الطمأنينة في نفسه ودفع الخوف.. خرج صلى الله عليه وسلم في غزو، فلم ينس أن يسأل جابر بن عبد الله عن زوجه، وينصحه بالزواج من بِكر تداعبه، وكان يستسمح الناس قبل القتال حتى عاتبه أحدهم في وكزة وكزها له حتى كشف له صلى الله عليه وسلم عن بطنه ليقتص منه، فقبّله الصحابي! وقد وصفه الله عز وجل في القرآن: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128] ومن أهم صفات المؤمنين وقت الشدة المفاصلة على الحق، وعدم القبول إلا بإثبات الحق كاملا دون انتقاص أو تمييع.. فهذا هو الخليل إبراهيم عليه السلام، وقد جعله الله أسوة للنبي والمؤمنين في هذا الأمر، يتبرأ من قومه، ومما يعبدون من الله، حتى يعبر عن موقفه بألفاظ قوية واضحة تحمل دلالات المفاصلة الكاملة على ما اختلفوا فيه، واقرأ معي هذه الآيات: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) } [الممتحنة: 4، 5] إن تزعزع أهل الحق عما هم عليه، والقبول بحل يميع القضية، ويضيع ما فيها من وضوح الحق وقوته، يفتن أهل الباطل؛ إذ يترك لهم أن يقولوا لأنفسهم: لو كانوا على الحق لثبتوا عليه، ولما تزعزعوا عنه "رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا"، وهو مثل ما قاله موسى عليه السلام لقومه لما نكل فرعون بهم وزاد في طغيانه وتجبر، دعاهم إلى التوكل على الله والمضي في أمرهم قائلا: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85] لقد جاءت كلمات القرآن في هذا الشأن قوية شديدة، لا تحتمل سوى الثبات المطلق على الحق، والمفاصلة عليه، والتحذير الشديد من التفكير في الركون إلى الباطل أو الاقتراب منه، فقال الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} [الإسراء: 73 - 75]. ولقد ضرب الله مثلا قاسيا بأولئك الذين يقبلون حلولا تفسد نقاء الحق، ونصاعته، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} [محمد: 25 - 28]. ومن صفات المؤمنين وقت الشدائد والمحن: تحري الصدق والإخلاص مع الله عز وجل، فإن كل امرئ مرهون بعمله، وإنما الأعمال بالنيات، وربما يقف الرجلان في الصف الواحد وما بينهما ما بين السماء والأرض! إن الإخلاص لله عز وجل لهو أشد ما يحتاجه العبد في هذه اللحظات العصيبة التي تمر بها الدعوة إلى الله، فيا خسار من يصيبه أذى، أو يبذل جهدا، أو يقتل.. ثم يقال له: فعلت كذا ليقال كذا.. وقد قيل! يا خسارته.. خسر نفسه، وخسر أجره،.. ونعوذ بالله من هذه الحال. إن هذا يقتضي بالضرورة أن يصلح العبد من دوافعه قبل العمل، ولا ينجرف مع الناس في الزحام، فليس عند الله زحام، ولا يتوارى عن الله عز وجل أحد "يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ"، ويقتضي كذلك أن يحرص على نيته من الاختلاط، والتشويش أثناء العمل، بالمراءاة، وحب الظهور، أو بعد العمل بالحديث عنه. إن هذا يعني بكل أسف: خسارة الدنيا والآخرة، فلا عاش يتمتع بسنوات الحياة المعدودة، ولا غادر الدنيا شهيدا أو مجاهدا.. بل يناله النصب في الدنيا، وخسارة المال والمنصب والأولاد، ثم يأتي يوم القيامة فلا يقيم له الله وزنا.. والعياذ بالله. كذلك الصدق مع الله، فمن غلبه عذر فليعلم أن الله مطلع عليه، ومن اضطر لعمل فيه ظهور أو شهرة فليعلم أن الله مطلع على قلبه يعلم السر وأخفى، ومن وقع في خطأ فليعلم أن الله ناظرٌ إليه.. وليكن شعاره "معذرة إلى ربكم" لا إلى الناس.. فإن ظن الله يقبل عذره استغفر الله ومضى في أمره، وإلا.. فما جدوى أن يقبل كل من في الأرض عذرك والله يعلم غير ذلك؟!! لما خرج المسلمون مع رسول الله إلى تبوك: تخلف ثلاثة من خيرة الصحابة، فلما عاد الجيش، اعتذر المنافقون بالأعذار الكاذبة، وصدق هؤلاء مع الله وأقرّوا خطأهم، فكانت النتيجة أن وُقِّعت عليهم بعد الغزوة عقوبة خصام المسلمين لهم خمسين يوما، فلما انتهى الأجل نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، يؤكد الله لهم أن الصدق هو نجاتهم، وإن وقعت عليهم عقوبة فلقد كانت تطهيرا لهم، أما أولئك الذين كذبوا ونافقوا فقد نزل فيهم قول الله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} [التوبة: 95، 96]. وأهم ما ينبغي على المؤمن الاستفادة به من هذه المحن هو: حسن الرجوع إلى الله رب العالمين، تلك الوظيفة والمهمة التي خُلقنا لأجلها، وأقيمت الدنيا بأسرها لها.. أن نرجع إليه عابدين طائعين مسبحين ذاكرين عفوه ورحمته، طامعين في كرمه وجوده.. كلما كان البلاء يشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد الله عز وجل يذكره بالوظيفة التي خُلِق من أجلها "عبادة الله" فيقول تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)} [طه: 130]. وكلما تأخر النصر جاء التثبيت من الله عز وجل ثم أمره بالالتفات إلى ما خُلِق له، تأمل قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]. فلنكثر من ذكر الله عز وجل، ولا تكون هذه الأحداث مبررا أو سببا لنا في التقصير في العبادة، بل هذه أوقات العبادة، ورحم الله جيش القادسية وقد وصفهم سعد بن أبي وقاص لعمر بن الخطاب: كانوا إذا جنّ الليل دووا بالقرآن كدوي النحل، ثم هم آساد بالنهار، فهذا الجهاد الذي أقامنا الله عز وجل فيه، إذا صحت فيه النية، فهو لأجل التمكين لعبادة الله في الأرض، فهيا نبدأ بأنفسنا، ونري الله عز وجل من أنفسنا خيرا، وإقبالا عليه، ورجوعا له، لعله سبحانه يقبل دعوة باك متضرع وقت السحر ما لا يقبله من ألف عامل بالنهار. اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.