إذا ذُكر الإسلام اتجهت النفوس المطمئنة إلى ذلك الدين القيم الذى جاء به خير البشر محمد -صلى الله عليه وسلم- بعقيدته التى تطهر القلوب، وتسوى النفوس، وتنقى الضمائر، وتعمق الصلة بين العبد وربه طاعة وإخلاصا حتى يصبح المسلم عابدا خلوقا يسارع فى الخيرات ليبنى مجتمعا أساسه العدل والإحسان والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى. ويوم يكون الجند مستأنفين لحياة إسلامية طيبة توجهها العقيدة، وتطهرها الشعيرة، وتحكمها الشريعة، وتضبطها القواعد الأصولية، وتسودها القيم والأخلاق، والحرية والعدالة والإنصاف، وتتحقق وحدة المشاعر قبل تطبيق الشعائر بتربية متأنية لصف ربانى يلتف حول قيادته، فلا فحش فى القول ولا بذاءة فى اللسان، ولا إيذاء ولا اعتداء، ولكن مجتمع يصطبغ بصبغة الله ومن أحسن من الله صبغة.. يومها تنتظر النصر. ولذلك حين كان شعار العاشر من رمضان (الله أكبر)، وكان الجند يركعون ويسجدون ويصومون ويتوجهون إلى الله بقلوبهم، مع قيادات تدعوهم إلى الله وتوجههم إلى عبادته، وتذكرهم بأنهم أمة مجاهدة عزيزة الجانب لا تخضع إلا لله ولا ترضى بالذلة ولا تستكين إلى هوان أصابها فى حرب سابقة فى 1967م، لذلك لم تفتر العزائم بل كانت هناك برامج دينية وإعلام يذكر دائما بالله وبانتصارات المسلمين وكتّاب أوفياء لوطنهم. ولم يقف الأمر عند هذا الإعداد الروحى والقلبى، بل تعداه إلى إعداد القوة بعناصرها المتعددة التى تشمل الناحية العسكرية، وكل ما يتعلق بفن الحرب من عقيدة وإستراتيجية، وعلم عسكرى، وتوسيد الأمر لأهله، وإعداد القوات المسلحة إعدادا متكاملا لتتفرغ لمهمتها الأساسية، أخذا بالأسباب، فكان من الطبيعى والأمر قد أخذ بقوة وتصميم، وتم التكامل بين جند وقيادة ومنهاج سليم، أن يكون النصر حليفهم وتوفيق الله معهم، فلم يعقهم بارليف ولم يخوفهم دايان، ولم يبالوا بقوة أمريكا يومها، وكان اعتمادهم بعد الأخذ بالأسباب على الله الذى يقول: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ومَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ولِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال]. أين هذه المعانى من حرب 67 المخزية المؤلمة؟ كان الجند فيها عددا حملهم الإسلام ولم يحملوه، وهم عبء على ظهره، كَمّ كبير ولكن يتسم بالخفة، غفلوا عن سنن الله فى الكون والإنسان والحياة، لا تسل عن برامجهم وسل قادتهم أين كانوا ليلة المعركة، كانوا يحتسون الخمر وينشغلون باللهو واللعب والانصراف عن الجد، ووسد الأمر فى هذه الحرب لغير أهله فكان الخزى وكان الخراب والدمار والفرار. فهل من مدكر فى أيامنا هذه حتى يتفرغ الجيش لأسمى مهمة وهى الدفاع عن الوطن؟ وتدبر حال الجيش حين يترك دوره ويواجه عدوه، يومها تكون حربا بلا قيادة عسكرية جادة ومؤهلة، فلا جند حدد لهم هدف وغاية، ولا برامج لها عقيدتها وإستراتيجيتها، ولكن ضجيج بلا طحن، وشعارات فارغة، وانتصارات زائفة وتضليل يبلغ المدى، وإعلام يصور الكارثة بأنها نصر، والمحنة بأنها منحة، طالما أنهم لن ينالوا من الزعامة والقيادة!!. إنه لدرس لمن يصدعون الرءوس ويدعون الجيش إلى البقاء فى الحكم يدير البلاد ويشرّع للعباد، ويصفقون لقيادته كلما خطو خطوة ولو ستضر بالثورة وتعيق المسيرة والحيلولة دون تحقيق الأهداف التى نسعى إلى تحقيقها، وها نحن نرى مصداق ذلك فى أحكام تصدر، وإعلام يضلل، وكتّاب كارهين للمشروع الإسلامى، فيفترون على أصحابه وينشرون الإشاعات التى تنال من وطنيتهم، لدرجة أنهم يصورون من يفرحون بالوضع الجديد -وهو اختيار الشعب بانتخابات حرة لم تر مصر لها مثيلا- هم الأمريكان والغرب بل "إسرائيل" نفسها، وأن هذا النصر صفقة بين هؤلاء والإسلاميين!!. إننا حين ندعو إلى عودة الجيش إلى ثكناته إنما نريد له التفرغ لأكبر مهمة وأخطرها، وهى حماية الوطن من أى معتدٍ يعتدى عليه أو يطمع فى ثرواته، أو يحاول تغيير هويته، فلا مرجعية إسلامية تحكم نظامه، ولا انتماء إسلامى يجمعه بوطنه العربى والإسلامى الكبير. فهلا علم الجميع لماذا لا يجيب قادة المشروع الإسلامى السفهاء حين يفترون، ويمسكون ألسنتهم عملا بنصيحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أمسك عليك لسانك)، فالإمساك ليس ضعفا ولكنه طهارة للسان من فحش القول وبذاءة الكلمات وتحرى الكذب، إنه درس من دروس رمضان الذى تعلمنا كيف يكون المسلم فى المقام الأول خلوقا ولا يقول للناس إلا حسنا. لذلك كله كان لا بد من أن نعى الدرس، بأن نبدأ المعركة من داخلنا، من نفوسنا وقلوبنا، إنها معركة مع جميع أنواع الانحراف الذى تولى كبره صحفيون كبار وقنوات فلول، وحزب واحد للإفساد لم يدع إلى الله يوما ما، ومن هنا لا بد من معركة مع هذه النفوس لتحرير العقول من الشك والشرك والشهوات والشبهات لتحقيق منهج الله على الأرض حتى لا تستبد الأهواء، ومعركة مع الأوضاع الفاسدة التى كانت سائدة وما زالت كى تطهر القلوب وتستوى الصفوف. إنها معركة مستمرة ودائمة، معركة شاملة ليس بقتال على الأرض، ولكنها داخل النفوس تبدأ بمجاهدة وجهاد لتحقيق النصر على النفس أولا ليتحقق النصر على أرض الواقع وصدق الله القائل: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. وهذا هو الفارق الرئيسى والأساسى بين الحربين، على الرغم من تضليل المضللين، وتشويه الكارهين، وإنكار أعداء الدين، فهى العودة إلى دين الله ليكون النصر المبين. الصلاح قبل الإصلاح: لقد كثر الكلام عن الإصلاح، وما زالت الأقلام تسود الصفحات وتتفتق العقول فى ندوات ومحاضرات وجلسات ولقاءات تقدم أساليب ووسائل ونظرات للإصلاح، ومعظم هؤلاء فى بحوثهم ومقالاتهم ونظرياتهم: كالعيش فى البيداء يقتلها الظما.. والماء فوق ظهورها محمول فكم قلنا ونقول إنه لا إصلاح إلا إذا تحقق أولا الصلاح الذى يوجد الإنسان الصالح، إذ هو أداة التغيير وبه يبدأ الإصلاح {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، فبصلاح رجل واحد تصلح أمة بأكمها. ونحن فى هذا الشهر الكريم.. شهر القرآن العظيم يعطينا نموذجا فريدا للإصلاح وكيف نبدأ؟ فهذا الشهر جُمع فيه بين العقيدة الصافية المجردة المتمثلة فى الإيمان والطاعة (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، إمساك بأمر، وإفطار بأمر، ويدور العبد بين فعل المأمور به وترك المحظور، وعبادات تبدأ بالصلاة والزكاة، وعمرة فى رمضان تعدل حجة، تنظيم وتشريع {وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ} [البقرة: 187]، وإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، وإن سابه أحد يقول: (إنى صائم إنى صائم)، ونظام بديع فى الصلوات والزكوات التى يجب أن تؤدى قبل صلاة العيد طهرة وتزكية. ولا تسل عن الأخلاق التى يجب أن يتحلى بها المسلم من صدق وأمانة، وإيثار وتضحية، وإخلاص وعمل وجهاد ومجاهدة، وإنكار للذات، وحسن معاملة وهدى وعفاف، وتقى وغنى وصحبة صالحة، كل ذلك لتتحقق الشخصية الإيمانية العابدة "كونوا عبادا قبل أن تكونوا قوادا تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة". فلا انتصار ولا إصلاح إلا إذا تحققت شخصية {وعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنا وإذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاما} [الفرقان]، فالإصلاح مُحال ما لم يتم الصلاح {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم]. وفى هذا الشهر الكريم شهر السخاء والإنسانية الفاضلة وشهر الحرية الصحيحة، شهر الجود والعطاء والكرم، شهر البذل والإنفاق، فيه ممسك عن طعامه وشرابه، محارب لذاته وشهواته الجسدية، مقبل على ربه بالصوم والصلاة، والعبادة والقرآن لتغذية الروح والسمو النفسى فتصفو الفكرة، ويشرق نور البصيرة، فترى الحقائق على صورتها، وتضع كل أمر فى نصابه وفى موضعه الذى خُلق له، فإذا بالأموال عرض دنيوى فانٍ لا قيمة لها فى ذاتها، ولكنها تشرف وتعلو إذا أُنفقت فى الخيرات فلا سرقات ولا تهريب أموال ولا اختلاسات ولا حرائق للشركات عند عمل الميزانيات، بل توجه لمن جاعت بطونهم، وعطشت حلوقهم أو تيتمت أطفالهم فى أقل القليل، أو تنفق فى سبيل إعداد للمجاهدين وتصنيع للسلاح لتقوى الأمة، ويُخشى بأسها وتُرهب، أو يدخل المال فى دورته تنمية للموارد وحلا للبطالة وتوزيعا على الأنشطة المختلفة من أنشطة اقتصادية واجتماعية وتعليمية وتثقيفية ويتحقق الاكتفاء الذاتى. قليل المال تصلحه فيبقى.. ولا يبقى الكثير مع الفساد هذا درس واحد من الدروس، وفى جانب واحد من الجوانب من منهاج رمضان فى الفرد تربية، وفى الأسرة ترابطا، وفى المجتمع تنظيما وتشريعا، فهل يجد الفساد موضعا فى مثل هذا المجتمع؟ {الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام]، ألم نناد بأن الإصلاح يجب أن ينبع من داخلنا، ودستورنا ينص على أن الشريعة الإسلامية أساس التشريع؟ أكنا إذا وضعنا هذا موضع التنفيذ نرى هذا الإسفاف فى وسائل الإعلام والقنوات الفضائية والنيل من الإسلام وأتباعه؟! أم كنا نرى هذا التخلف التقنى والعلمى فى مجتمعاتنا. إن أصحاب المشروع الإسلامى يبذلون المهج والأرواح فى سبيل إعلاء كلمة الله والمحافظة على هوية الأمة، هم خرّيجو مدرسة رمضان قوّام الليل صوّام النهار الركّع السجّد الذين خافوا من الجليل وعملوا بالتنزيل واستعدوا ليوم الرحيل، كل ذلك لنسعد الأمة ويعيش أفراد المجتمع فى أمن وأمان.. فهل من مجيب؟. ---------------- نائب المرشد العام للإخوان المسلمين