الأيام دول وَمَعْنَاهُ: رُجُوع الشَّىْء إِلَيْك مرّة وَإِلَى صَاحبك أُخْرَى تتداولانه، ومن حاول قهر الحق قُهرِ. والدهر قُلَّب: يوم لك ويوم عليك. وسنة الحياة عدم ثبات الأحوال لكن العاقبة للمتقين فلابد من استحضار هذا عند الابتلاء فعلى الباغى تدور الدوائر، وليعتبر الناس بهذه الأحداث، وأن الأمر أولا وآخرا بيد الله -عز وجل- ولا يقع فى الكون إلا ما أراد الله؛ فما على المسلم إلا أن يستحضر مثل هذه المعانى ومثل الآيات: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} (النساء:104)، لكن الفارق هو أنكم {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} (النساء:104)، ومهما اشتدت المحن بالمؤمن، فما عليه إلا أن يفزع إلى الله ويستعمل سلاح الدعاء والتضرع لله تبارك وتعالى؛ لأن الله سبحانه هو نصير للمؤمنين ومولى لهم قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد:11)، (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (الحج:71)، يكفى أن المدد مقطوع بين الظالم وبين الله سبحانه وتعالى؛ لأن ما بينه وبين الله خراب ودمار. إذا: يكفى المؤمن فى البلاء أن يفزع إلى الله؛ ولأن الحبل بينه وبين الله متصل، وإذا فزع إلى الله سبحانه وتعالى فإن الله يمده بنصره وبمعونته إذا فلا تضِقْ ذرعا فمن المُحالِ دوامُ الحالِ، وأفضلُ العبادِة انتظارُ الفرجِ، والأيامُ دُولٌ، والدهرُ قُلّبٌ، والليالى حُبَالى، والغيبُ مستورٌ، والحكيمُ كلَّ يوم هو فى شأنٍ، يغفرُ ذنبا، ويكشفُ كرْبا، ويرفع أقواما، ويضعُ آخرين ولعلَّ الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمرا، وإن مع العُسْرِ يُسْرا، إن مع العُسْرِ يُسْرا. ينتبه لهذه المعانى أولو الألباب فلا تمر عليهم المواقف مر السحاب حتى يستخلصوا منها العبر والعظات. وكما أن الأيام دول فكذلك الدول أيام. والدهر دول، يهبط العالى، ويعلو الذى هبط، ويذل العزيز، ويعز الذى ذل، وإن دار علينا الدهر حينا، فتفرقنا وتباعدنا، ولَفَّنا ليل مظلم، أغمضنا فيه عيوننا، وأغمدنا فيه سيوفنا، فلم نبصر اللص يدخل علينا، ولم ننهض إليه لنرده عنا، وحَسِبْنا لطول الليل أن لا صباح له، فقد طلع الآن الصباح، وانقضى الليل، وهب النائمون يمشون إلى الأمام. إلى الأمام! وإلا فما هذه الثورات، وما هذه الوثبات؟ وما هذه الوحدة فى العواطف والمشاعر، فى العالم لتداعيات أحداث عالمنا، فينبغى عدم اليأس، فالأيام دول، ودولة الإسلام قد بدأت تعود، وإرهاصات النصر قد لاحت، فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويوم نُساءُ ويومٌ نسر فلم تدم الدنيا للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فمن الأنبياء من كانت لهم حكومات، ودانت لهم البلاد وطبقوا شريعة الله عز وجل فى الأرض وفى الناس، ولا شك أنه لا أحد يتصور أبدا أن هناك ما هو أحسن للبشر من شريعة ربهم، ومع ذلك دارت الدورة، وصار للجاهلية مكانٌ فى بعض الوقت، ثم جاء الإسلام وهكذا: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:140). هذه السنة إلهية واضحة، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لما سُبِقَتْ العضباء وهى ناقته، سبقها أعرابى، فتأثر لذلك أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: {حقٌ على الله ألا يرتفع شىء إلا وضعه} فالدنيا ليس فيها خلود، وحقٌ على الله ألا يرتفع شىء إلا وضعه. الأيام دول كما أخبر الله جل ذكره، وقد سأل هرقل أبا سفيان عن حالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل حاربتموه؟ قال: نعم. قال: كيف كانت الأيام بينكم وبينه؟ وكيف كانت الحروب؟ قال: الحروب بيننا وبينه دول، ننال منه مرة، وينال منا مرة. قال هرقل: وهكذا حال الرسل، يُدال عليهم ثم تكون لهم العاقبة. فهذا هو شأن الحياة الدنيا، لا تبقى لشخص على وتيرة واحدة، ولو كان النصر دائما حليفا للمؤمنين لأورثهم طغيانا وكبرا واستغناء عن الله سبحانه وتعالى، ولكن يُكسروا ويُدال عليهم مرة، ثم يعلو أمرهم وينتشر قولهم، هذه سنة الله سبحانه وتعالى فى خلقه. وفى ضوء هذا تفهم أحداث غزوة أحد، ووقوع الرسول صلوات الله وسلامه عليه فى كمين ابن قمئة أقمأه الله، وتُكسر رباعيته، وينزف دمه الشريف، بل يُشاع أنه قد قُتل، حتى فتَّ ذلك فى عضد البعض حتى ألقى السلاح إلا أن الله تعالى قيَّد من يُعلن التعبئة من جديد، ويقول قوموا فموتوا على ما مات عليه. وتفهم كذلك أحداث غزوة حنين. سنة التدافع مهمة لتصحيح الأوضاع قدر الله أن تكون المعركة بين الحق والباطل، والخير والشر والهدى والضلال إلى قيام الساعة والأيام مداولة بين الناس: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:140)، {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251)، إذا سنة التدافع مهمة لتصحيح الأوضاع، يدفع الله تعالى حزبا بحزب، وأحداثا بأحداث والله قادر أن ينزل النصر بلا جهاد، لكن لا بد من الجهاد لإزالة ما فى النفوس من الشوائب، ويعلم الله الصابرين، ويتخذ شهداء، ويعلم المنافقين. "وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُم" (محمد:4)، وقال تعالى: "وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (آل عمران:139-140)، انظر إلى يونس بن متَّى عليه السلام فى ظلمات ثلاث، لا أهل، ولا ولد، ولا صاحب، ولا حبيب، ولا قريب، إلا الله الواحد الأحد، فهتف بالكلمة الصادقة المؤثرة النافعة: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء:87)، فجاء الفرج. لا يأس من رحمة الله وفرجه يعقوب عليه السلام، تآمر أولاده عليه وعلى أخيهم حتى فرَّقوا بين أبيهم وأخيهم وأحزنوا أباهم، وابيضت عيناه من الحزن، فهو كظيم يقول لأبنائه: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف:87). فلا يأس والله يُدعَى، ولا قنوط والله يُرجَى، ولا خيبة والله يُعبَد، ولا إحباط والله يُؤمَن، جل فى علاه، فإذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا}. "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّى مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ" (يوسف:110). عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ -رَضِى اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ وَاسْتَوَوْا عَلَى أَقْدَامِهِمْ رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ إلى اللَّهِ وَقَالُوا يَا رَبِّ مَعَ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ مَعَ الْمَظْلُومِ حَتَّى يُؤَدَّى إلَيْهِ حَقُّهُ. وهذا الأثر فيه بشارة لكل مظلوم أن الله تعالى معه فلا يأس ولا قنوط ولا إحباط، ولكن أمل وتفاؤل. هذا وبالله التوفيق ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل فى القول والعمل.