"إنهم يقتلونا، إنهم يقتلونا يا بروس".. كلماتٌ لفظها أحد مشجعي ليفربول مع أنفاسه الأخيرة وهو يستنجد بحارس الفريق بروس جروبيلار بعدما أُغلقت بوابات الموت عليهم. رجال الشرطة استمّروا في أماكنهم كجذوع أشجارٍ هجرتها الحياة، وتغافلوا عن أداء دورهم ليتركوا من وَجَب عليهم تأمينهم يواجهون مصيراً مشئوماً. طُمست الحقائق وتغّيرت الأدلة بفعل فاعلٍ صدرت له أوامر من جهات عُليا، لتنقلب الآية وتصبح الضحية هي الجاني، والقاتل مجنيٌّ عليه. مؤامرة تكالبت عليها أركان دولةٍ بأكملها خلّفت وراءها 96 ضحية، متّهمون لم يعرف الحساب لهم سبيلاً، وحقيقة غابت لسبعة وعشرين عاماً. "سياسة وكورة" سلسلة يقدمها FilGoal.com عن أبرز الأحداث والمناسبات الكروية التي شهدت تدخلات سياسية،وستكشف الحلقة الخامسة من السلسلة بعض كواليس التدخل السياسي في كارثة هيلزبروه. سياسة وكورة - ما بين كرة القدم وصليب هتلر المعقوف سياسة و كورة (2) – رحلة إلى إقليم الباسك #نهائي_الأبطال .. سياسة و كورة (3) – في أية جهة سيجلس ديكتاتور إسبانيا في سان سيرو؟ سياسة وكورة (4) – يوفنتوس ونابولي .. حرب الشمال والجنوب البداية العداء بين الجماهير الإنجليزية من جهة والحكومة وإدارات الأندية من جهة أخرى بلغ ذروته في ثمانينات القرن الماضي، حيث كانت حكومة تاتشر تنظر إلى المشجعين على أنهم حفنة من مثيري الشغب المخمورين الذين يأتون إلى الملاعب لممارسة العنف، وفرضت كشف بطاقات الهوية لمشجعي الأندية استناداً لقانون مشاهدة كرة القدم الذي تم إقراره عام 1989. صبيحة يوم 15 إبريل 1989 في يوم ربيعي من عام 1989 توّجهت أعدادٌ غفيرة إلى شمال إنجلترا حيث تقع مقاطعة "يوركشير" لمؤازرة ليفربول في مباراته الهامة أمام نوتنجهام فورست في نصف نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي. ليفربول كان الأفضل على المستويين المحلي والقاري خلال تلك الفترة، لذلك كان من المتوقع أن يلحق به ما يزيد عن ال25 ألف متفرج، لكن الشرطة أصرّت على إعطاء جماهيره الجانبين الشمالي والغربي من الملعب فقط(14600 مقعد) وهي حصة أصغر من حصة خصومهم مشجعي نوتنجهام (21000 مقعد). ملعب هيلزبروه لم يكن يحمل شهادات الأمن والسلامة المطلوبة، واشتُهر بصفوفه الأمامية القريبة من الملعب الغير آمنة، فلقد أصيب المئات في مباراة نصف نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي بين توتنهام وولفرهامبتون عام 1981 بسبب رداءته، وتبيّن لاحقاً في التحقيقات أن رئيس نادي شيفيلد وينزداي –صاحب الملعب- بيرت ماكجي قد أعرب للشرطة عن قلقه حيال سلامة "هيلزبروه" أثناء الإعداد للمباراة. الأمر الذي زاد الطين بلة كان وجود أعمال صيانة على الطريق المؤدي ليوركشير ، مما أدى إلى تكدّس المرور ، وتأخر وصول جماهير ليفربول إلى ملعب اللقاء لتحدث فوضى عارمة قبل صافرة البداية بعشرين دقيقة. ومع هذه الأعداد الكبيرة التي وصلت جميعها في نفس الوقت فقد الضباط المتواجدون على البوابات سيطرتهم على الأمور، كانوا يريدون التخفيف من الضغط خارج الملعب، وكيف يحدث ذلك والمدرجات ممتلئة بالداخل؟ هيئة الإشراف على الملعب أعطت أوامرها للضباط بفتح البوابة C، ليتدفق على إثرها 2000 مشجع إلى المدرجات في الخمس دقائق الأخيرة من البداية. -"إفتح تلك البوابات اللعينة!" الزحام الخانق في المدرجات أجبر البعض على تسلق السياج الفاصل بينها وبين الملعب. رجال الشرطة كانوا يدفعون من ينجح في التسلق إلى الداخل مرة أخرى بعد أن أغمضوا عيونهم وصمّوا آذانهم عن نداءات الاستغاثة لفتح بوابات جانبية، لكن جروبيلار -أقرب اللاعبين لمسرح الجريمة- سمع صراخ من كانوا خلفه، وإليكم نص شهادته. "لقد قلت لرجل ظننته أنه رجل شرطة، افتح البوابات إنهم يموتون، ثم ركلت الكرة خارج الملعب وقلت له :ألا ترى ما يحدث ؟ افتح تلك البوابات اللعينة، لكنه لم يستجب لي، فخرجت من أرض الملعب وتوجهت إلى الحكم وناديته ، وفي هذه اللحظة أوقف رجال الشرطة المباراة". سيارة إسعاف واحدة هل يمكن لعقلٍ أن يستوعب وجود سيارة إسعاف واحدة داخل حدود ملعب لكرة القدم تحدث فيه كارثة راح ضحيتها 96 شخصاً ؟ نعم هذا ما حدث! ، الشرطة أخبرت سائقي أكثر من 40 سيارة متواجدين في الخارج أن الوضع في الداخل خطير ، بسبب شجار الجماهير مع بعضهم البعض. سائق سيارة الإسعاف الوحيدة التي دخلت إلى ارض الملعب توني ادواردز قال حينما تم استضافته في أحد البرامج لاحقاً: "لم نكن ذوي نفع ، لقد اعتدت على أن يكون هناك مصاب واحد ، ولكن هذه المرة كانوا كُثر. لم نقم بعملنا على أتم وجه ذلك اليوم، لقد تركنا الناس في الملعب، ولم يكن هناك أحد محترف ليسعفهم." "كانت هناك 44 سيارة إسعاف في الخارج أي 80 شخص كان يمكن أن يدخلوا للملعب لتقديم المساعدة ولكنه لم يُسمح لنا بالدخول. هل يمكنك أن تتخيل حادث قطار لا يدخل المسعفون فيه الى موقع الحادث ولكن الناجين هم من يحضرون الأشخاص الذين يحتاجون لمساعدة طبية إليهم؟" الجدير بالذكر أن لجنة التحقيق قدمت أدلة قاطعة حول إمكانية نجاة 41 من ال96 ضحية لو كانت هناك استجابة أسرع من خدمات الطوارئ. داكنفيلد .. المذنب الأبرز إذا كنت رئيساً لاتحاد كرة القدم في بلادك ، وينتظرك لقاء جماهيري كبير، فمن المنطقي أن تسند مهمة مراقبة المباراة إلى أكثر الأشخاص خبرة وحنكة لديك ، لكن هذا لم يحدث في هيلزبروه، فقد راقب المباراة دافيد داكنفيلد-من شرطة يوركشير- الذي لم يتولَ الإشراف على أية مباراة بضخامة نصف نهائي كأس الإتحاد الإنجليزي من قبل. تحريّات لجنة التحقيق المستقلة أفادت أن داكنفيلد كان بإمكانه منع الكارثة من الحدوث إذا أمر بتأجيل المباراة حتى الثالثة و40 دقيقة بدلاً من انطلاقها في الثالثة عصراً حتى يتسنى إدخال جميع المشجعين من البوابات. وعندما سأل جراهام كيلي -المدير التنفيذي لاتحاد كرة القدم- داكنفيلد عما حدث اجابه أن مشجعي ليفربول أجبروا رجال الشرطة على فتح بوابة المخرج مما سبب التدافع فلقوا حتفهم على الفور. داكنفيلد لم يكتفِ بهذا فقط، فبينما كان المنكوبون يبحثون عن أصدقائهم أمر الشرطة بسؤالهم عن كمية الكحوليات التي تعاطاها الضحايا قبل المباراة، وتم أخذ عينات دم من الموتى في المشرحة المؤقتة التي أقيمت داخل صالة الألعاب الرياضية في الملعب لفحصها، بل وعُلم لاحقاً أن شرطة يوركشير بحثت في الملفات الجنائية للقتلى بغية إيجاد أي جرائم سابقة لهم. The Sun- .. غروب شمس الحقيقة "إن لم تكن حذراً فإن الصحافة ستجعلك تكره المقهورين، وتحب أولئك الذين يمارسون القهر"- مالكوم إكس. إن ما احتاجته الحكومة البريطانية لإكمال أركان مؤامرتها هو وقوف السلطة الرابعة إلى جانبها، ولقد وجدت في صحيفة ذا صن ورئيس تحريرها كيلفن ماكنزي خير مساند. ماكنزي عنون تقرير صحيفته-الذي انخفض توزيعها في ليفربول من 55 الف نسخة يومياً إلى 12 ألف نسخة بسبب موقفها من الحادثة- بعد الكارثة ب"الحقيقة" ووصف الضحايا بالمخمورين الذين لم يمتلكوا تذاكر ، تقاتلوا مع بعضهم البعض ، وهاجموا أفراد الشرطة. عنوان التقرير الرئيسي لم يكن "الحقيقة" بل كان "أنتم حثالة" لكن ماكنزي غيّره في الدقائق الأخيرة. تشويه الأدلة في الأيام التي أعقبت الكارثة رأس اللورد تايلور رئيس المحكمة العليا تحقيقاً لكشف المتسبب في هذه الجريمة، وأثبتت لجنة التحقيق أن أدلة شرطة يوركشير تم تشويهها عن عمد، ووجد أن 164 من أقاويل الشهود تم تعديلها، في حين تم محو 117 شهادة تدين الشرطة، واختفت أشرطة الفيديو من كاميرات المراقبة ، كذلك لم يتم الاستماع إلى سائق سيارة الإسعاف الذي كان بداخل الملعب. تايلور لم يطمئن لتلك الأدلة وألقى باللوم على الشرطة متهماً إياهم بعدم القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة، تغيير الأدلة، والإدلاء بكلام غير واقعي، وطالبهم بإعلان مسئوليتهم عما حدث. تدخل مارجريت تاتشر حكومة تاتشر استخدمت كل أساليبها سواء من الشرطة أو الإعلام لمعاداة مدينة رفضت أن تخضع لسياساتها وأحكامها. أوامرٌ أُصدرت إلى شرطة يوركشير بأن يقوموا بتدوين ما مروا به أثناء الحادثة في أوراق عادية وليست رسمية على عكس الأحوال العادية، واعترف الضباط خلال التحقيقات بأن هذا أمر غير مسبوق، واتضح بعد ذلك أن الأوراق العادية سَهُل تغيير بعض الشهادات فيها، قبل أن يتم عرضها على اللورد تايلور. تاتشر والمتحدث الإعلامي باسمها برنارد إنجام زارا هيلزبروه بعد ساعاتٍ من الحادثة، وردد إنجام في أكثر من مناسبة أنه علم ليلة الحادث أن ما وقع كان بسبب "الحشد المخمور" على حد وصفه، وأن ما كرره إعلامياً لم يكن سوى ما قالته شرطة يوركشير لتاتشر. صحيفة ديلي ريكورد نشرت تقريراً في سبتمبر 2012 عن دور مارجريت تاتشر في التخفيف من وطأة الاتهامات الموجهة للشرطة وإليكم بعضاً مما ورد فيه. "رفضت تاتشر انتقاد قوات الشرطة المتورطة في كارثة هيلزبروه، كما إنها تسترت عليهم وفقًا لمعلومات المستندات النارية التي أظهرتها اللجنة المستقلة للتحقيق". "ما تم نشره بواسطة اللجنة كشف أن رئيسة الوزراء أمرت أن يكون رد فعل الحكومة على تقرير اللورد تايلور الذي ظهر بعد الكارثة هو التخفيف من مسئولية الشرطة عما حدث، وألا يتم انتقادها والهجوم عليها". "تاتشر بعثت برسالة كتبتها بخط يدها إلى وزير الداخلية البريطاني دوجلاس هيرد –الذي كان بصدد الترحيب بتقرير تايلور- وقالت له :التوجه العام الذي ترحب به ما هو إلا انتقادات مدمرة للشرطة، هل هذا أمر مرحب به؟ هل بالفعل نحن نرحب -كما ذكرت- بدقة هذا التقرير؟" الحقيقة بتاريخ 12 سبتمبر 2012 قدم رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون اعتذاره لعائلات ال96 ضحية عقب التقارير والمستندات التي أصدرتها لجنة التحقيق وحمّلت أخطاء الشرطة مسئولية ما حدّث، وأقرّت بأن تاتشر وحكومتها أرادا تغيير الحقائق والأدلة لإلقاء اللوم على جمهور الليفر. التقرير الذي تم نشره احتوى على 450 ألف صفحة من أدلة دامغة ضد شرطة يوركشر، مكتب الطب الشرعي، خدمات الطوارئ، الحكومات المتعاقبة، والصحافة. أما رئيس تحرير ذا صن كيلفن ماكنزي فقد صرح بعد هذه الأدلة الحاسمة قائلاً:" اليوم أتقدم بأسفي لأهالي ليفربول بخصوص ذلك العنوان، لقد تم تضليلي. منذ 23 عام سلموني نسخة من تقرير جاء فيه تصريحات جادة من رجال الشرطة ضد المشجعين. لم أضع في حسباني أن رجال الشرطة هؤلاء يمكن أن يكذبوا ويتلاعبوا بالحقائق. لقد ظهرت الحقيقة بعد عقدين من الزمن و 400 ألف وثيقة ليكشفوا أنه وجب أن أضع عنوان "الاكاذيب" بدلا من "الحقيقة". وفي 26 أبريل الماضي أدانت هيئة المحلفين الشرطة بالتسبب في مقتل الجماهير وأصدرت حكمها النهائي في القضية لتظهر الحقيقة ويظفر جمهور ليفربول بكتابة النهاية في آخر فصلٍ من فصول معركة العدالة المنشودة.