ترك د.ميلاد حنا دنيانا فى لحظة فارقة طالما حذر منها وخاف من أن يعيش مشاهدها البشعة، أعتقد أن د.ميلاد قد رحل عامداً متعمداً مستشعراً بأن مصر التى عرفها وحارب من أجلها وكتب عن عظمتها وتفردها تنهار وينفرط عقدها وتفقد ريادتها كأقدم دولة بانهيار معنى الدولة وانهيار القانون، فى الليلة الظلماء يفتقد البدر، وما أحوجنا الآن إلى قراءة أهم ما كتبه مفكرنا الراحل الكبير وهو كتاب «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية»، الذى أرجو من كل مصرى أن يقرأه بتمعن ليقرأ ملامح وطنه التى تغضنت مع المصالح الضيقة، والتى يريد رسمها بلون واحد فصيل سياسى انتهازى طماع متعطش إلى السلطة ولا يمكن أن تطفئ ظمأه كل أنهار وآبار العالم. الحفريات الجيولوجية للمصرى تثبت -من وجهة نظر د.ميلاد- أن لديه رقائق حضارية طبقة فوق طبقة لا تستطيع فصلها عن بعضها ولو بأقوى إزميل أو بلدوزر، متداخلة تداخل اللحمة والسداة، وأى محاولة لتأميم المصرى لصالح طبقة جيولوجية وتغليبها على أخرى هى محاولة مستحيلة ومحكوم عليها بالفشل. الأعمدة السبعة للشخصية المصرية عبارة عن أعمدة أو انتماءات تاريخية أربعة وهى: الانتماء الفرعونى واليونانى الرومانى والقبطى والإسلامى، وثلاثة أعمدة جغرافية وهى: الوطن العربى والبحر الأبيض المتوسط وأفريقيا، مع كل هذه الأعمدة غيرت مصر لغتها وديانتها ثلاث مرات على عكس حضارة قديمة أخرى مثل الصين ظلت بلغة ودين واحد آلاف السنين. العمود الأول الفرعونى لم تستطع طمسه عصور القهر التى كانت تطارد المومياوات وتسميها المساخيط؛ لأن هذا الانتماء هو انتماء لأقدم حضارة مدونة فى التاريخ، ثم يأتى العمود اليونانى الرومانى الذى كان السبب فى الامتزاج الحضارى ونقل الحضارة الفرعونية للعالم ويكفى ذكر مكتبة الإسكندرية لنعرف قوة هذا التأثير. إذا كان ما سبق قد ترك بصماته على الشخصية المصرية إلا أن العمود القبطى والمسلم لم يعد ماضياً ومجرد بصمة ولكنه حاضر فاعل، فمصر قدمت للدنيا بالنسبة للعمود القبطى فى الشخصية المصرية قانون الإيمان المسيحى وابتكار الرهبنة ونضال الكنيسة، وجاء العمود الإسلامى الذى لم يقم فى مصر بالدم والسيف وجاء اتصالاً لا انفصالاً وبتراً فيمكن أن يذكرك الأذان وتنغيمه بالترانيم والألحان الكنسية فى قوة تأثير الوجدان الفنى المصرى عليهما. لا يمكن الفصل بين الأعمدة الجغرافية أو الانتماءات الثلاثة؛ العربى والأوسطى والأفريقى، والأخير الأفريقى يعتبره د.حنا هو ملاذ المستقبل وقبلته. أتمنى أن يدرس هذا الكتاب فى المرحلة الثانوية إذا كنا نريد ترسيخ المواطنة الحقة فى وجدان وعقول الجيل الجديد.