ما الذي حدث للشخصية المصرية؟، سؤال طرحه عدد من الكتاب من قبل وحاولوا الإجابة عنه، وأعادت الندوة التي أقامها المجلس الأعلي للثقافة صباح الخميس الماضي بعنوان"الهوية المصرية عبر العصور" طرح السؤال، علي خلفية الأحداث التي حدثت بين مصر والجزائر عقب مباراة كرة القدم المؤهلة لكأس العالم. في الجلسة الافتتاحية، أشار مقرر الندوة الدكتور جمال شقرة، رئيس قسم التاريخ بجامعة عين شمس، إلي ما فجرته حوادث العنف ما بين مصر والجزائر من قضايا متعلقة بتكوين مصر الثقافي، وإعادة طرح التساؤل حول هويتها الفرعونية أو العربية، وقد رأي شقرة أن هذه ليست المرة الأولي لتفجير هذه التساؤلات، فقد طرحت قبل ثورة يوليو وبعدها، وقد رأي الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة الدكتور عماد أبوغازي في إعادة طرح هذا التساؤل ما يثير الاستغراب بعد تكون هوية مصر وتشكلها عبر آلاف السنين. الندوة استمرت علي مدار جلستين اختص فيهما كل متحدث بالحديث عن بعد واحد من الأبعاد التي ساهمت في تكوين الهوية المصرية، كالبعد الأورومتوسطي والبعد الإفريقي والبعد اليوناني والروماني والبعد التركي، دون أن يحاول المتحدثون توضيح كيف امتزجت وانصهرت هذه الأبعاد جميعا في الشخصية أو الهوية المصرية، كمقرر لجنة التاريخ بالمجلس الدكتور اسحق عبيد الذي اكتفي بقوله:" نحن أبناء الماضي الفرعوني والحاضر العربي، والغريب أن المتحدثين اجتنبوا جميعا الحديث عن البعد العربي لمصر، لدرجة أن رئيس حزب التجمع الدكتور رفعت السعيد تجاهل الرد علي بعض المداخلات التي تعرضت لهوية مصر العربية، وهي الهوية التي نفتها عدد من الأصوات في ردها علي تجاوزات بعض الجزائريين، كما نفاها عدد من الكتاب كالكاتب الراحل بيومي قنديل. واختلفت المصطلحات بين المتحدثين ما بين "الهوية" و"الشخصية" و"الجنسية"، ويبدو أن رفعت السعيد قد تنبه لذلك منذ البداية فقام في بداية الجلسة الأولي التي رأسها بتوضيح الفرق ما بين "الهوية" و"الشخصية" وقال:" الهوية تضم عناصر كثيرة دينية وفكرية وشخصية وغيرها، لكن الشخصية تحمل قدرًا من الخصوصية الفردية"، بينما اختلف معه الدكتور عبد الوهاب بكر، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بآداب الزقازيق، وقال:"لم يتفق المؤرخون علي تعريف محدد للهوية، لكن يمكن تعريفها بأنها كل ما يميز أمة ما عن باقي الأمم من لون ولغة وثقافة وطباع وجنس وروح وعقائد وغيرها". في نهاية الندوة عرض الدكتور جمال شقرة، رئيس قسم التاريخ بآداب عين شمس. للعوامل الثلاثة التي رآها قد أدت لتغير الشخصية المصرية وهي: فترة الانفتاح الاقتصادي التي سحقت الطبقة الوسطي وأصابت المجتمع بالخلل، ثم دخول الحقبة النفطية وتغييرها لقيم طبقة العمال، وكذلك الهيمنة العالمية التي تسعي لمحو ثقافات العالم الثالث. وكان نتيجة ضغوط الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، كما قال شقرة، هو ظهور تشوهات في المجتمع كالعجز عن حل المشكلات وانتشار الانسحابية بين المجتمع، والتمركز حول الذات وانتشار الأخطاء في التفكير والتفسير والإفراط في التعميم ونشر الشائعات، لكن شقرة يؤكد أن ما حدث للشخصية المصرية أمر مؤقت سيزول بزوال الضغوط علي الشعب المصري. وحاول الدكتور عبد الوهاب بكر التعرف علي "بدايات التميز عن الهوية التركية" مفضلا استخدام مصطلح "الجنسية"، وقال:" صدر قانون الجنسية العثمانية عام 1869الذي أخضع المصريين جميعا لتلك الجنسية حتي انفصالها عن الدولة العثمانية في 5 نوفمبر عام 1914، وكان بونابرت أول من استخدم مصطلح المصريين في العصر الحديث عندما خاطب الشعب المصري في منشوره الشهير في يوليو 1798، وقد دفعت تلك الدعوة المعلم يعقوب بن يوحنا ليقدم عام 1801 مشروع استقلال مصر إلي الفارس لاسكارس"، وأكد علي قيام بعض المشايخ المصريين في البحث عن الشخصية المصرية الحقيقية كمكرم والبكري والشرقاوي، وأشار لدور عرابي عام 1881 في إطلاقه دعوة "مصر للمصريين"، وما تلاها من ثورات مصرية كبري كانت تسعي للتأكيد علي الهوية المصرية، وعرض لصدور قانون 29 لعام 1929 الذي كرس للانفصال عن الجنسية العثمانية، وكذلك لدور أغاني سيد درويش في هذا الإطار". واختلف معه الدكتور عبد المنعم الجميعي، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الفيوم، الذي تحدث عن "شعار مصر للمصريين"، وأكد أن سعيد باشا ابن محمد علي هو من بدأ بإطلاق تلك الصيحة وبدأ بترقية المصريين في الجيش إلي رتبة ضباط ومنهم أحمد عرابي، ثم بدأ عدد من الكتاب المصريين من مختلف الديانات في الكتابة عن تلك الصيحة في الصحف ومنهم يعقوب صنوع اليهودي وميخائيل عبد السيد القبطي وعبد الله النديم ومحمد عبده الإسلاميين، لكن الجميعي عاد ليؤكد أن تلك الصيحات لم تكن بعيدة عن محبة الدولة العثمانية، وأشار إلي أن التدخل الإنجليزي وقيام الحروب العالمية وإصدار دستور 23، ساعدت علي تعميق هذا الشعار، لكن ثورة يوليو جاءت لتزوي هذا الشعار حينما اتجهت نحو الاهتمام بالقضايا العربية. وفي كلمته أكد رفعت السعيد أن الشخصية المصرية شخصية معقدة جدا، وقال:" هي شخصية تبدو هادئة أحيانا ومستكينة أحيانا وبريئة أحيانا، لكنها حينما تستفيق تفعل كل شيء كما حدث وقام الفلاحون بالثورة العرابية، وقام الطلاب بثورة 19 وقيام الجيش بثورة يوليو والجماهير بأحداث 77 وغيرها، وتابع "نحن متدينون لكننا معتدلون، ولا يجب أن ننظر للتشدد الحادث الآن لأنه خارج الطبيعة المصرية"، ودعي الدكتور محمد الحريري إلي إعادة دراسة التاريخ الذي تم حذفه من المناهج. وتحدثت الدكتورة زبيدة عطا حول"الهوية المصرية بين الاستمرارية والانقطاع"، وأكدت أن جمال حمدان لم يكن الوحيد الذي تناول هذا الموضوع، فهناك ميلاد حنا في كتابه"الأعمدة السبعة للشخصية"، ومحمود عودة في كتابه " شخصية المصري..التكيف والمقاومة"، وكذلك عاطف غيث، واستنتجت أن هؤلاء الكتاب وغيرهم، اتفقوا علي ثلاثة أبعاد تميز الشخصية المصرية وهي: التدين والاعتدال والتواصل أو الانقطاع بين الفترات الحضارية، وعرضت لبعض الآراء التي رأت أن اعتدال المصريين وصل إلي حد الاستسلام الكامل للحاكم كالمقريزي الذي وصف الشعب المصري بأنه مطية لمن ركب، وجمال حمدان الذي قال بأننا نؤخذ بالكرباج، وقال:"لكنني أقول أن المصري ليس خاضعا طوال الوقت، وهو تحت الضغط يقوم بالكثير كالثورات الماضية وأحداث العنف الطائفية والأخري التابعة لمباريات كرة القدم"، واعتبرت أن تغيرات الشخصية المصرية تأتي نتيجة لتراكم سنوات قهر الحكام. وتناول الدكتور محمد عفيفي البعد المتوسطي لمصر، واستشهد بتصريح لمسئول في الخارجية المصرية يعود لعام 1995 أكد فيه المسئول أن مصر قبل الغزو العربي أي عام 641 م كانت دولة خالصة الهوية المتوسطية، وبعد الفتح العربي أصبحت الهوية المصرية عربية إسلامية، وعاد المسئول ليؤكد علي أن المتوسطية بدأت تعود مرة أخري للفكر المصري. وتعرض عفيفي للاتجاهات المتعارضة التي جاءت ردا علي كتاب طه حسين، كدعوة أحمد لطفي السيد الذي آمن بالقومية المصرية، واعتبر أن الرابطة العربية وهم من الأوهام، ودعوة الشيخ المراغي، شيخ الأزهر، لقيام الوحدة الإسلامية، وكتاب "فلسفة الثورة" لعبد الناصر الذي قال أن مصر عربية ثم إفريقية ثم إسلامية، بالإضافة إلي بعد تأكيد جمال حمدان علي أن بعد مصر المتوسطي حضاري وليس طبيعيا، واقتصاديا وليس بشريا. وتناول الدكتور أبو اليسر فرح، أستاذ التاريخ بآداب عين شمس موضوع "شخصية مصر في العصر اليوناني والروماني"، واعتبر أن فترة الحكم اليوناني والروماني لمصر أفادها كثيرا لما أتاحه ذلك من اتصال بمراكز العلم والثقافة في دول البحر المتوسط، وإن نفي أن يكون هذا الحكم قد طمث هوية مصر مؤكدا أن مدينة الإسكندرية كانت مدينة إغريقية بطابع مصري، وأكد اقتناع الحكام اليونانيون والرومانيين بالأبعاد الأخري لمصر، وقال: "آمن هؤلاء الحكام أن تأمين مصر يأتي بتأمين دول الشام ولهذا قامت حروب عديدة بين الدولة البطلمية بمصر والسلوقية بسوريا، كما قاموا باستكشاف منابع النيل وأرسلوا البعثات لدراسة هذه الدول وجلب الفيلة منها، كما ارتبطت مصر في عهدهم بالقوي المتوسطية".