مشاعر متباينة تنتابني وأنا أتأمل ردود أفعال كثير من المثقفين والكتاب والشخصيات العامة ممن ينتمون إلي النخبة المصرية بأوسع معانيها إزاء ما يحدث في مصر هذه الأيام. فمن ناحية. أتفهم كثيرا مشاعرهم المحبطة والمندهشة إزاء ما آل إليه وضع مصر بعد ما يقرب من خمسة عشر شهرا علي قيام ثورتها العظيمة في يناير 2011, فمن كان يتصور منا, نحن المصريين, الذين شاركنا بالآلاف والملايين في المظاهرات الحاشدة الرائعة في ميدان التحرير بالقاهرة, وميادين التحرير في أماكن أخري كثيرة في مصر, في يناير وفبراير 2011 علي النحو الذي أبهر العالم كله, وجعله يقف مبهورا ومشدوها بالثورة, أن يئول الأمر إلي أن يسيطر تيار الإسلام السياسي (مجسدا في جماعة الإخوان المسلمين, وحزبها الحرية والعدالة, وكذلك في الأحزاب والتجمعات السلفية المتعددة) علي السلطة التشريعية, من خلال أغلبية في مجلسيها, فضلا عن سعيه للتحكم في كتابة دستور مصر, وانتخاب رئيسها القادم! والإحباط والدهشة لدي النخبة هنا مرتبطان بحقيقة أن ذلك التيار كان فقط مشاركا في الثورة, ولكنه لم يكن أبدا المبادر بها, ولا الغالب فيها, ولا القائد لها! غير أن من الإنصاف القول أيضا إن هذا الموقف لدي النخبة المصرية إنما زكاه ودعمه الميل الاحتكاري المدهش لدي الإخوان خاصة- بعدما سعوا وقد انتشوا بنصرهم التشريعي- إلي تكوين لجنة كتابة الدستور, قبل أن يعلنوا أيضا طرح مرشح لهم لرئاسة الجمهورية. وبعبارة أخري, فإن ما أزعج النخبة المدنية ليس الفوز الإخواني بالأغلبية التشريعية, وإنما هو التوجه نحو ما توافقوا علي تسميته ب التكويش, وفقا للتعبير العامي الشائع. ثم زاد علي ذلك التوجهات المتطرفة من بعض ولا أقول أبدا كل- التيارات السلفية, التي وجدت بالطبع في مناخ الحرية السائد, الذي انتزعه الشعب بثورته العظيمة, فرصة لأن تجهر بدعواتها إسلامية.. إسلامية, رافعة رايات سوداء, وربما أعلاما, لدول أخري, علي نحو أسهم بلا شك في مضاعفة هذا الانزعاج, خاصة مع تصريحات ذهبت بعيدا في شططها من بعض قياداتهم, مثلما حدث في أحداث العباسية المأساوية أخيرا. وغني عن البيان ابتداء- أن هذا الموقف لدي النخبة المصرية, إزاء تلك القوي, لا يتعلق بأي حال بالإسلام كدين وثقافة لدي الغالبية العظمي من المصريين, وإنما هو بالتأكيد ينصرف إلي ذلك التزايد في الخلط بين الدين والسياسة, علي نحو لم يكن أبدا ذا نتائج إيجابية, سواء في التاريخ الإسلامي كله, أو في النماذج المعاصرة للحكم الإسلامي! ولكن هذه علي أية حال- قضية أخري. أقول إنني لا أتفق كثيرا مع تلك التوجهات المتخوفة والمتشائمة, استنادا إلي حجتين أو سببين: الأولي: إننا ينبغي أن ننظر لتلك الغلبة للتيار الإسلامي بعقلية, وبمنطق مصر ما بعد الثورة, لا ما قبلها! بمعني أن سيادة أو غلبة تيار سياسي معين, في ظل نظام استبدادي لا ديمقراطي, تختلف تماما عنها في ظل نظام ديمقراطي حقيقي. سيادة تيار سياسي, في ظل الاستبداد, معناها أنها سيادة مؤبدة لا يمحوها زمن, ولا تحد منها سلطات ولا مراجعات. ولكن العكس تماما في ظل الديمقراطية, فغلبة ذلك التيار مؤقتة بفترة محددة, تخضع فيها للرقابة الشعبية. وبالتالي, فإن تفويضها بوظيفتها التشريعية محدود بالضرورة, فضلا عن أن استمرارها, أو تجديدها لفترة أخري, مرتبط بنجاحها في القيام بوظائفها علي نحو مرض للرأي العام, ومقنع للناخبين الذين أعطوهم أصواتهم. ولا شك في أن تفويض الناخبين المصريين - فى مناخ ما بعد 25 يناير - للقوى الاسلامية, وايداعهم إياها ثقتهم, كان ولا يزال مرهونا بقدرة هؤلاء علي القيام بوظائفهم البرلمانية (الرقابية والتشريعية) علي نحو سليم ومرض. وفي الواقع, ليست لدي مؤشرات علمية يعتد بها حول رضاء أو عدم رضاء الناخبين ناخبي مصر ما بعد25 يناير- عن أداء نوابهم, ولكن من المؤكد أن هناك شعورا عميقا بالمسئولية, أو بالخوف من الفشل لدي أولئك النواب, الأمر الذي يدفعهم كما يلاحظ من أداء المجلسين التشريعيين- إلي الإفراط في تقديم الاستجوابات والإحاطات والأسئلة, فضلا عن مشروعات القوانين الكثيرة والمتعجلة. أما المجموعة الثانية من الأسباب التي تدعوني للتفاؤل وعدم المبالغة في التخوف من تطرف إسلامي معين, فهي تتصل بحقيقة المعدن الأساسي للشخصية المصرية, والتي فرضت نفسها, ولا تزال تفرضها, علي الحياة العامة في مصر, برغم كل التحديات التي تفرزها التطورات السياسية. وبعبارة واضحة ومحددة, فإن أية توجهات مفرطة في محافظتها سواء باسم الدين الإسلامي أو غيرها- يصعب بشدة أن تنال من الطابع القومي الأصيل للشخصية المصرية, بما فيها من تعددية ثقافية, وتسامح عقيدي, كان دائما إحدي السمات الأصيلة لمصر والمصريين, وليس لدي علي الإطلاق من الأسباب العلمية أو الموضوعية ما يدفعني إلي تصور حدوث تغيير في هذه الحقيقة. لقد وجدت مصر ككيان ومجتمع ودولة قبل كل الأديان, وشهدت أرضها فجر الضمير في العالم وفق التعبير البليغ الشهير للعالم الإنجليري الشهير هنري بريستدب ذ في أنها استقبلت كل تلك الرسالات, وتمثلتها, وأسبغت عليها من طابعها. وفي ذلك السياق, لم تتلق مصر الإسلام فقط, ولكنها ما لبثت أن أضحت منارة للدعوة إليه, من خلال واحدة من أعرق جامعات الأرض, وهي أزهرها الشريف. وفي حين أن من المهم لنا, نحن المصريين, أن نتفهم خاصة في تلك المرحلة المفصلية من تاريخنا- أوجه القصور العديدة في شخصيتنا القومية, والتي أشارت إليها أبحاث ودراسات علمية لا شك فيها, والتي يمكن تفسيرها بأسباب تاريخية وجغرافية وأنثروبولوجية وثقافية, إلا أن ذلك ينبغي ألا يصرفنا عن إدراك, بل الإيمان العميق بالنواحي الإيجابية والمتفردة التي ينبغي أن نتذكرها ونؤكدها في لحظات التحول الكبري. ومن حسن الحظ وربما كان هذا أيضا جزءا من تراثنا الثقافي العظيم- أن قائمة كبيرة من أفضل مثقفي مصر وباحثيها أسهبوا بدرجات وإسهامات متفاوتة- في الحديث عن تلك الشخصية, بما يذكرنا جميعا بروح مصر التي أبدا لم تندثر, بدءا من عباس العقاد, وصبحي وحيدة, وحتي جمال حمدان, ونعمات أحمد فؤاد, وميلاد حنا, وذلك في إطار ما تسعفني به الذاكرة! ولنتوقف هنا بعض الشيء أمام بعض كلمات لاثنين منهما فقط: جمال حمدان, وميلاد حنا. يركز حمدان, في سفره العظيم الخالد (شخصية مصر), والذي ينبغي أن يكون في متناول كل شاب وكل تلميذ في مصر, خاصة من صناع ثورة مصر العظيمة, علي خلاصة ما وصل إليه, بعد سنين طويلة في دراسة جغرافية مصر وتاريخها, وتفاعلهما معا, في إطار نظريته عن عبقرية المكان, من أن مصر إنما تجسد ما يسميه ملكة الحد الأوسط, أو الاعتدال: إن الاعتدال أو التوازن هو الوجه الآخر للتوسط, والتوسط لا يقصد به الاعتدال, أو التوازن المحافظ الخامل, بل ملكة الحد الأوسط.. بمعني عدم التطرف أو التطوح, وهو بهذا ابن المرونة أو أبوها, ودليل الحيوية والتكيف والقدرة علي التلاؤم, ومن ثم كان له قيمة بقائية في خلود الشعب المصري, أو كما يقول ويلسون عن مصر القديمة: مرونة أسلوب المصريين, والوسائل التي حققوا بها الأمن والسلام, علي أساس التوازن بين القوي المتعارضة, تدل علي عبقرية شعب عظيم. وإن يكن التوسط صفة جوهرية في شخصية مصر, فإن الاعتدال من جانبه أدخل في الشخصية المصرية. التوسط دراسة في عبقرية المكان, ولكن الاعتدال دراسة في عبقرية الإنسان. التوسط دراسة في روح مصر, أما الاعتدال فدراسة في روح المصري. وبعبارة أوضح, إذا كان التوسط ألصق بالأرض المصرية, فإن الاعتدال يتصل مباشرة بالإنسان المصري نفسه, نفسيته, عقليته, أخلاقياته, شخصيته, خامته ومعدنه, جوهره وروحه... إلخ. (شخصية مصر, طبعة دار الهلال, ط3, ص517-518). فإذا انتقلنا للمهندس والمفكر الكبير د. ميلاد حنا في كتابه المتميز الأعمدة السبعة للشخصية المصرية: أي المكونات, أو الرقائق المتوالية التي كونت شخصية مصر, وهي: مكونات أربعة بحكم التاريخ, أي: الفرعونية, والمكون اليوناني الروماني, والمكون القبطي, ثم المكون الإسلامي, وثلاثة مكونات بحكم المكان, أي: العروبة, والمتوسطية, والإفريقية, لرأينا كيف أن هذه الأعمدة السبعة موجودة في الشخصية المصرية أو داخل كل مصري! والواقع أنني استرجعت كل هذه الأفكار هذا العام في مناسبتين: الأولي: ليلة رأس السنة الميلادية في مصر هذا العام, والتي تمت لأول مرة بعد ثورة يناير, وفي وسط أجواء ما بعد الانتخابات البرلمانية, التي فازت فيها الأغلبية الإسلامية, والتي شهدت لأول مرة- احتفالا كبيرا في قلب ميدان التحرير, ميدان ثورة يناير, بقدوم العام الميلادي الجديد, بمشاركة شباب الفنانين المصريين في أجواء من الانفتاح والتفاؤل والمشاركة الواسعة من كافة الشباب, بكافة انتماءاتهم الدينية والسياسية بلا أي تحفظات ولا حساسيات. وكانت الثانية, عندما كنت في مدينة رأس البر أسير وسط مئات الآلاف من البشر ذ- ا ب ذ العيد المصري الفريد والأقدم- في أبريل الماضي, وفي نزهتهم اليومية عند لسان رأس البر الشهير, بين نيل مصر علي اليمين, وبحرها المتوسط علي اليسار. كل هذا قبل أن أقرأ وأنا أخط السطور الأخيرة في هذا المقال- عنوان حوار صحفي بجريدة الوطن الجديدة يوم 7 مايو2012 مع الشاعر المصري الكبير المبدع أحمد فؤاد نجم, نصه: مصر هتفضل فرعونية.. لا إخوانجية ولا سلفية.. وبكره تشوفوا!! المزيد من مقالات د.أسامة الغزالى حرب