أنتمي سياسيا إلي التيار الليبرالي الديمقراطي الذي يتمايز عن التيارات الأخري التي كانت وما تزال تتقاسم الساحة السياسية المصرية, أي التيارات الإسلامية, والاشتراكية والقومية. وبهذه الصفة وبسببها فإنني لا أشارك الكثيرين إنزعاجهم من الصعود الإخواني (والإسلامي بشكل عام) الذي تشهده اليوم الحياة السياسية المصرية من خلال انتخابات مجلس الشعب, والتي لا يتصور أن تشذ المرحلة الثالثة عن اتجاهها العام. فبإيجاز وببساطة شديدة, لا يمكن أن أدعي أنني ليبرالي وديمقراطي, ولا أحترم ولا أتقبل الخيار الذي أراده الشعب! من ناحية أخري, فإنني مقتنع بأن هزيمة القوي الأخري ليبرالية كانت أم يسارية أم قومية.. تنطوي علي عنصر إيجابي لا شك فيه, وهو تنبيه هذه القوي إلي حقيقة وزنها السياسي الراهن, ونقاط الضعف التي عانت ولاتزال تعاني- منها مما يدفعها بداهة- إلي أن تقيم أداءها وتعيد صياغة أفكارها, وأساليب عملها. ذلك هو جوهر الديمقراطية وسر عظمتها وتفردها بين غيرها من النظم السياسية, وقد اختارت مصر الثورة طريق الديمقراطية, ولكنها الديمقراطية الحقيقية لا المزيفة, فكل النظم في العالم تتمسح ب الديمقراطية, والنظم الشيوعية كانت تسمي نفسها الديمقراطية الشعبية! وهتلر وصل للحكم بالديمقراطية! وفي مصر كنا نتحدث عن ديمقراطية الشعب العامل في الحقبة الناصرية, وفي ظل السادات ثم مبارك كان يحكمنا الحزب الوطني الديمقراطي! هذا هو الجانب الإيجابي أو المشرق الذي يسعد القوي الفائزة, ولكن وحتي نتحدث بأقصي قدر من الموضوعية- علينا أن نسرد الظروف أو العوامل التي أدت إلي هذا الموقف, والتي يجب أيضا أن يعيها الجميع (من فازوا ومن خسروا!). إن أول هذه الظروف أو العوامل تتعلق بالسمات العامة للهيئة الناخبة المصرية في اللحظة الراهنة, والتي يقع في مقدمتها علي الإطلاق تفشي الأمية لما يقرب من30% من السكان (وهو العار الذي يلطخنا جميعا بلا إستثناء!), ووقوع ما يقرب من 40% من المصريين تحت خط الفقر, والذي يتبدي بالذات في وجود ما يزيد عن ألف منطقة عشوائية منتشرة في جميع أنحاء البلاد! ذلك وضع لا يسمح بالضرورة لأي شعارات أو أفكار أن تستوعب سوي الشعارات الدينية! فهي القاسم الثقافي المشترك الوحيد الذي يصل بين جميع المصريين أيا كانت مستوياتهم الاجتماعية أو الثقافية! ثاني هذه الظروف هو عدم التكافؤ بين الأطراف الداخلة في التنافس. ففي مواجهة القوي الإسلامية توجد قوي مدنية إما قديمة أو حديثة. القوي القديمة (وعلي رأسها حزب الوفد وحزب التجمع) منهكة وأثبتت عجزها عن تجديد نفسها إلي إشعار آخر, ولكن الأكثر أهمية هنا هو القوي الجديدة التي لعبت دورا أساسيا في الثورة المصرية, والتي سعت إلي الانتظام في أحزاب سياسية مثل إئتلافات وأحزاب شباب الثورة, والحزب الديمقراطي الاجتماعي, وحزب المصريين الأحرار, والأحزاب الأخري في الكتلة المصرية... إلخ, هذه القوي الجديدة لم تتح لها الفرصة الكافية بداهة- للدخول في منافسة حقيقية مع القوي والأحزاب القديمة, وعلي رأسها بالطبع الإخوان المسلمون. وليس من الإنصاف هنا مثلا أن نتصور منافسة حقيقية بين قوي سياسية وليبرالية عمرها بضعة شهور, وقوي سياسية عمرها يزيد عن ثمانين عاما! أما المرشحون الذين فازوا سواء من هذه الأحزاب أو من خارجها فهم يمثلون إستثناء من القاعدة, وسجل كل منهم انجازا يستحق الإشادة, ويستلزم الدراسة والتحليل! ولذلك لم يكن غريبا إلحاح الإخوان المسلمين منذ الأيام الأولي لنجاح الثورة علي المسارعة بإجراء الانتخابات, وعلي الدعوة إلي الانتخابات أولا قبل الدستور وعدم الالتفاف علي الأرادة الشعبية!! قبل الدستور وهي المعركة التي ثارت في الفترة السابقة علي الانتخابات! ثالثا, ليس هناك شك فيما رصدته الأجهزة والجهات المحايدة المراقبة للانتخابات من أساليب مورست علي نطاق واسع لشراء الأصوات (غالبا بشكل غير مباشر) ومن ممارسات تنطوي علي إنتهاك واسع للقانون, وفي مقدمتها علي الإطلاق الاستغلال المكثف للدين ولدور العبادة في الدعاية الانتخابية, وهي تجاوزات مرت كلها مرور الكرام, برغم تسجيلها والتنبيه إليها من جانب عديد من المنظمات المعنية! ولكن هذا كله لا يغير من الحقيقة الأساسية شيئا, وهي تصويت أغلبية المصريين لصالح التيار الإسلامي, ومنحهم له فرصة تاريخية لممارسة حقه في الحكم والتشريع, في سياق ديمقراطي غير مسبوق في مصر أيا كانت نواقصه أو مثالبه! هنا, تذهب السكرة وتأتي الفكرة كما يقال, ويتعين علي الإسلاميين أن يعدوا أنفسهم لمرحلة ما بعد الانتصار, حيث التحديات ليست هينة علي الإطلاق! فيتعين أولا, علي الإخوان المسلمين, الفصيل الأكبر والأقوي, أن يحددوا علاقتهم بالقوي الإسلامية الأخري التي زاحمتهم في اقتناص النصر, أي السلفيين الذين تجسدوا بالذات في أحزاب النور والأصالة والفضيلة والإصلاح, فضلا عن ظهور بعض من قادتهم سواء في أثناء الثورة المصرية أو بعدها. وليس سليما علي الإطلاق وضع تلك القوي السلفية كلها في قالب واحد, ففي حين صدرت عن بعض تنظيماتهم وقياداتهم تعبيرات وأفكار شديدة الشذوذ والغرابة, خاصة في مقارنتها بالتيار الرئيسي للإسلام المصري المعتدل والمنفتح والمتسامح, فإن بعضا من رموزهم أو المتحدثين باسمهم بدوا شديدي الإعتدال والإتزان, ولقد قابلت علي سبيل المثال- في خلال الندوات أو اللقاءات نادر بكار ومحمد نور وهي قيادات سلفية شابة علي درجة عالية من الاحترام والإتزان! وينبغي علي الإخوان المسلمين ثانيا- الالتقاء أو التفاعل مع قوي الثورة, أي تحديدا تلك القوي الشبابية والتجمعات والقوي السياسية التي شكلت التيار الرئيسي للثورة المصرية, والتي شاركها الإخوان في الميدان! وبعبارة أخري, ينبغي ألا تئول الأوضاع في مصر إلي قوي الميدان وقوي البرلمان, أو قوي المظاهرات وقوي الانتخابات. حذار هنا من أي نوع من الاستعلاء, أو الاستبعاد! الثورة المصرية بعبارة واضحة ومحددة- أوسع وأكثر خصوبة بكثير من فصيل واحد أو تيار واحد. ويتصل بهذا ذ-, لأقباط مصر, لإزالة أدني قدر من المخاوف أو الشكوك حول احترام مبدأ المواطنة, وتوضيح أن المرجعية الإسلامية للإخوان أو للحرية والعدالة لا تعني أبدا تخليا عن الدولة المدنية التي تقوم علي الشرعية الدستورية والقانونية, والتي لا تنطوي علي أية تفرقة بين المواطنين المصريين سواء علي أساس الدين أو أي أساس آخر. هذه كلها مقدمات أساسية, لابد من الوفاء بها, قبل أن يشرع حزب الحرية والعدالة كحزب حاز علي ثقة الغالبية من المصريين, في طرح أفكاره وتصوراته وسياساته حول أوضاع مصر ومشاكلها الجسيمة الحالية. فالوجود في مقاعد المعارضة بعيدا عن مسئولية التشريع والحكم شيء, والجلوس في مقاعدها وتولي مسئولياتها فعليا شيء آخر تماما! حقا, إن النظام الرئاسي المعمول به وفقا للدستور القائم لا يلزم رئيس الجمهورية (أو من يحل محله) بتشكيل الحكومة من حزب أو أحزاب الأغلبية, ولكن يفترض ضمنا- في ظل الوضع الثوري الجديد- أن تعبر الحكومة عن هذا الحزب, أو أن تتسق معه بقدر الإمكان, خاصة مع حق البرلمان في سحب الثقة من الحكومة! ومن المتصور فور إنتهاء الانتخابات التشريعية, أن يطرح الإخوان المسلمون أفكارهم ورؤاهم بشأن الأوضاع الحالية في مصر, والسياسات العامة المقترحة لمواجهتها. ومن المؤكد هنا أن لا الإخوان, ولا أي قوة سياسية يمكنها أن تتعامل منفردة- مع الأوضاع المتردية الراهنة في مصر, وهو ما يملي بالضرورة- فكرة الائتلاف مع قوي سياسية أخري (في شكل حكومة ائتلاف وطني أو وحدة وطنية) لمواجهة تلك الأوضاع. وربما يرجح هذا التوجه, أن البرلمان المصري, بمثل ما سوف تسوده الأغلبية الإسلامية, فسوف توجد فيه بالضرورة معارضة قوية وشرسة, عيونها مفتوحة للرقابة علي الأداء الحكومي, فعلا لا شكلا! وبعبارة أخري, فإن النظام الديمقراطي هو حزمة متكاملة لا تتضمن فقط حكومة شرعية تمثل الغالبية, وإنما أيضا معارضة حقيقية ومشروعة تقف بالمرصاد للحكومة القائمة, تتابعها وتراقبها من أجل تحقيق أفضل أداء ممكن, بعيدا عن اللاكفاءة, أو المحسوبية أو الفساد. وتلك هي فضائل الديمقراطية, التي قامت من أجلها الثورة المصرية, والتي ينتظر الشعب ثمارها, بعد طول ترقب وانتظار! المزيد من مقالات د:أسامة الغزالى حرب