(1) اليوم الأول بعد الحرب الذرية.. الأرض مستنقع كبير «ضخم» ملىء بحيوانات وحشرات مرعبة، السماء رمادية قاتمة.. المناخ متقلب بشكل مخيف.. برق، رعد، سيول هائلة، وشرارت ضخمة رهيبة تهبط لتحرق كل شىء.. لقد انحرف المجال المغناطيسى للأرض قليلاً.. وأصبح ثقب الأوزون بحجم الأمريكتين. *** لم يكن أحد يتوقع ذلك.. تلك الدولة الصغيرة سبب المشكلة، انمحت من الوجود بقنبلة هيدروجينية، فأصبح الصراع عالمياً، فى يوم واحد زالت الحضارة وضاع كل شىء. (2) بعد عام.. مَن كان يتصور؟ ضاع كل شىء.. فى الصحراء الضخمة البعيدة.. استيقظ الدكتور «بيل» فى البقعة الوحيدة الصالحة لحياة معرّضة لمخاطر شتى، لم تكن هناك شمس مثل تلك التى كانت قبل عام بالتمام.. مجرد تهويمات ضوئية عالية وخافتة.. وظلال.. ممتدة فى كل مكان. كان جلد الدكتور «بيل» غريباً.. قد نمت عليه فقاقيع قرمزية اللون فى كل مكان.. بينما تضخمت خصيتاه وتحدبتا بشكل مرعب، فأصبحتا بحجم برتقالتين متوسطتين، تدلت كل واحدة من خلال ثقبين خاصين، صنعهما بعد أن أدرك أن كل محاولة لتعديل سرواله ليُناسب هذا التغيير الجديد قد باءت بالفشل، وأصبح لزاماً عليه أن يسير فارجاً ما بين ساقيه بشكل يشبه قرود الزمان الماضى. كان الدكتور «بيل» يجلس فى ملجأ ولاية بنسلفانيا الأمريكية، هو والدكتور «أسامة»، المهاجر المصرى الذى تخصص فى علوم الذرة، والشاب «جون» من بريطانيا، البالغ من العمر عشرين عاماً، والشاب «سونج»، والطالبان مبعوثان إلى جامعة مشهورة فى الولاياتالمتحدة للدراسة. كان الجميع يُجرى الفحص الشامل.. والتدريب العملى على الوحدة المعروفة ب«ملجأ ولاية بنسلفانيا الذرى» من توصيلات وأجهزة ومجسات إشعاعية ومعامل تحاليل للغلاف الجوى، وصور خاصة من الأقمار الصناعية.. إلخ. قامت الحرب.. وانتهت فى لحظات، وهم تحت الأرض، نجوا بأعجوبة، وساعدتهم الملابس الواقية المجهّزة بها الوحدة فى الخروج إلى العالم الخارجى إذا ما احتاجوا إلى ذلك. كانت الوحدة مجهّزة بآلاف الأطنان من الطعام والماء والأدوية والعصائر والمرطبات وكل كماليات الأرض، بل وكانت مجهزة بعشرات الحيوانات المنوية، لكن دون بويضة واحدة. كان الرفاق الأربعة قد أدركوا حجم المشكلة بعد مرور عام واحد، جميعهم عرضة لمخاطر شتى.. قد تقضى عليهم فى أى لحظة، وإلى الآن ليس من دليل على وجود أحياء آخرين، لقد أضيفت إلى عاتقهم مهمة جديدة.. أكبر من مجرد الحفاظ على حياتهم من الإشعاع والصواعق والمناخ المتقلب والحشرات والحيوانات المرعبة.. إلخ. أضيفت على عاتقهم مهمة الحفاظ على الجنس البشرى كله. (3) تحرك الرفاق الأربعة فى ملابسهم الواقية التى تشبه ملابس رجال الفضاء، وكل منهم يحمل بوصلته الخاصة. كانت وسيلة تحركهم دراجات بدائية تمكنوا من تصنيعها فى مخبئهم، وفى دائرة نصف قطرها ثلاثة كيلومترات كانت دائرة تحركهم، وكان هدفهم البحث عن حياة أىّ شكل من أشكال الحياة. *** صرخ جون فى ثورة: لا فائدة.. لا فائدة إننا نبحث منذ أسبوعين، انتظرنا عاماً كاملاً حتى ينتهى كل هذا، وبحثنا فلم نجد شيئاً، لم يعد أحد على قيد الحياة.. كل ما تبقى أنقاض لناطحات سحاب مدمَّرة، وعظام.. وتراب.. كل ما تبقى من حضارتنا تراب. بذل «سونج» جهداً ليرفع يده فى لباسه الواقى، وربت بها على كتف «جون» وهو يقول: اهدأ، اهدأ يا جون.. لن تفيد هذه الثورة شيئاً، لا بد أن نفكر بهدوء وموضوعية. ركع «جون» على الأرض.. ووضع رأسه بين قدميه وأخذ يبكى فى قوة صارخاً: لا فائدة.. كلنا سنموت.. لم يبقَ شىء سوى أقمار صناعية تدور فى الفضاء على مسافات بعيدة، وترسل برامج تافهة لأناس ماتوا وفنوا..!! أخذ يبكى وهو يقول: كم يوماً تبقى فى عمرنا؟ لقد ضاعت حضارتنا، وفنى جنسنا، وعلينا انتظار الموت فى هدوء وسكينة.. لا فائدة!! لا فائدة!! ظهرت ملامح الألم على وجه الدكتور أسامة.. بينما تحرك الدكتور «بيل» من طرف الحجرة المخصصة لتلقى برامج الأقمار الصناعية، تحرك نحو جون الذى أخذ ينوح، وجذبه بقوة هاتفاً: اهدأ.. اهدأ.. نحن لا ينقصنا مرضى نفسانيون، ألم يكفِك ما حدث لنا.. سنحاول التفكير فى حل.. لا بد أن نحاول. أصابت جون حالة هيستريا وهو يصرخ: لا يوجد حل.. إننا لا نستطيع إيجاد أنثى.. أنثى واحدة للحفاظ على جنسنا الشقى.. رحماك يا إلهى، رحماك. جلس ثلاثتهم فى ركن منزوٍ من ملجأ بنسلفانيا، فقد طرأ أمر جديد. فى إحدى رحلاتهم الاستكشافية غاب رابعهم الدكتور «أسامة» ولم يعد.. وزادت همومهم هماً جديداً، لقد ظنوا أن الموت قد أصاب واحداً منهم، فأصبحوا ثلاثة فى مواجهة هذا العالم الجديد. قال الدكتور بلهجة حزينة: لا بد أنه قد تجاوز حدّ الكيلومترات الثلاثة التى اتفقنا عليها، وللأسف فإن جهاز الإرسال لن يعمل بعد تجاوزه هذا الحد. قال «جون»: سندور فى رحلات استكشافية بحثاً عنه، إن حصته من الأوكسجين تكفى يومين كاملين، وأعتقد أن معه علبتى عصير محفوظتين. صمتَ لحظة، ثم أضاف فى لهجة حاسمة: لا بد أن نعثر عليه، بالتأكيد هو لم يتجاوز دائرة قطرها خمسة كيلومترات. قال «سونج»: إن رفيقنا الرابع هو دليل هامّ على قدرتنا على البقاء أحياء لسنوات قادمة، ففى حال عدم عودته، يعنى ذلك أن هناك أخطاراً أخرى خارجية، مما قد يعنى أننا سنظل مسجونين هنا إلى أن نموت. قال الدكتور «بيل»: سنخرج فوراً فى دائرة استكشافية قطرها ستة كيلومترات، سنقسِّم الدائرة ثلاثة أجزاء، ولن نعود بدونه. *** بدأتْ وردية البحث فى الدائرة الجديدة.. خرج الثلاثة كلٌ فى بقايا الجزء المخصص له، كانت نقطة تجمُّعهم مكاناً خرباً قديماً على بعد ثلاثة كيلومترات من ملجئهم. بعد ثلاث ساعات عاد «جون» والدكتور «بيل» ولم يتبادلا أى حديث.. كانت نظرات اليأس فى عيونهما أبلغ من أىّ كلام. وبعد نصف ساعة عاد «سونج»، وهو يجر معه الدكتور «أسامة» الذى بدا منهكاً متعباًَ. وبأقدامهما الضخمة فى الرداء الخاص.. ركضا فى خطوات ثقيلة نحوهما. وصلا إليهما وقد سقط كلاهما أرضاً. قال «بيل»: حمداً لله على سلامتكما، لقد كانت لحظات صعبة تلك التى فكّرنا فيها أنك لن تعود يا دكتور «أسامة». كان «سونج» راكعاً وبين يديه الدكتور «أسامة» الذى كان يضع يده طوال الوقت على موضع ركبته فى الثوب الخاص. غمغم «أسامة» فى صوت متهالك: أشكرك.. أشكركم جميعاً على المجهود الذى بذلتموه للوصول إلىّ. قال «جون»: ولكن ماذا حدث؟!! ما الذى أخرك هكذا يا دكتور «أسامة»؟!! قال الدكتور «أسامة» وقد جحظت عيناه من وراء الزجاج البلاستيكى للخوذة.. وبان العرق الغزير يغطى وجهه. لقد كانت هناك.. لقد لمحتُها.. جميلة.. صغيرة.. فتية.. صالحة لحمل أملنا فى غد جديد. كانت تبتعد.. لا أدرى لماذا؟ وتخشانى.. تخشى ملابسى وحذائى الضخم وجهاز الإرسال الذى أحمله فى يدى.. تخشى وجهى الذى لم يرَ النور منذ عام. قال الدكتور «بيل» وهو يهمس إلى زميله «جون»: يبدو أن الرجل قد أصابه المرض.. إنه يهذى!! قال الدكتور «سونج»: أرجوك يا دكتور «أسامة» إنك مريض وفى حاجة للعلاج. رفع الدكتور «أسامة» من فوق ركبته.. كان هناك قطع قصير لا يتعد قطره ثلاثة سنتيمترات. صرخ «جون»: يا الله.. لقد تعرض الرجل للإشعاع.. إنه يموت.. أسند الدكتور «سونج» الدكتور «أسامة» بيده عندما اهتز وارتعش بقوة، وقال بكلمات مرتعشة: لا بد.. لا بد أن تواصلوا البحث.. آه.. مصير الجنس البشرى بين أيديكم.. واصلوا المحاولة.. إنجاز آلاف السنين على وشك الضياع.. لا بد من البحث عن أنثى.. أية أنثى.. مؤمنة.. عاهرة.. جميلة.. قبيحة.. طويلة.. قصيرة.. كل ذلك أصبح لا يهم. لفظ الدكتور «أسامة» أنفاسه الأخيرة وسقط وجهه بين يدى الدكتور «سونج».. انهمرت الدموع من عيونهم ثلاثتهم.. بينما لمعت شرارة ضخمة فى السماء الرمادية من خلفهم.