توهمت وأنا فى طريقى إلى باريس لإجراء الفحوصات الدورية التى يكفلها لى نظام التأمين الصحى الفرنسى ولتسوية بعض الأمور العالقة بصدد معاشى، أننى سأهرب بجلدى من صداع الرزايا اليومية التى تحاصرنا من الخارج وتنخر فينا من الداخل.. وخاب ظنى بالثلث، حيث صرعتنى موجة برد قاسية طرحتنى أراضاً، لدرجة أنى كنت فى شبه غيبوبة لمدة ثلاثة أيام.. وما أن أفقت للحظات حتى مددت يدى نحو «الآى باد» وأنا أدعو الله أن أسمع شيئاً مفرحاً بعد سلسلة الغم التى تستعر وتخبو حسب الرغبة الإسرائيلية؛ حيث اختنقت بكل ما تحمل الكملة من معان والإعلام الفرنسى يتحدث عن أبناء قطاع غزة فيصفهم ب«الغزاويين» وليس الفلسطينيين، وقد كتبت كثيراً فى هذا الموضع المحزن، ورأيى أن إسرائيل ما كانت تحلم بشطر فلسطين بالصورة التى تم بها تمزيقها تحت دعاوى لا تصمد أمام الواقع أياً كانت، وخاصة أن شعار حماس يخلو من الإشارة إلى العروبة أو حتى إلى فلسطين.. وقبل أن تجف دموعى على الخيبة التى وصلت إليها قضية العرب المركزية، انفطر قلبى وأنا أتابع فاجعة أطفال أتوبيس أسيوط، التى هى بالمناسبة، محافظتى الأصلية.. شعرت أن كل الضحايا أحفادى وأنه لا أحد فى الدولة على قد المسئولية، خاصة عندما تصفعنا عبقرية هذه الدولة بتسعير المصرى بأقل من ألف دولار!! يا بلاش!! ما هذه المهانة وما هذا الجهل بقيمة البلد الذى يحكمون.. ولماذا نلوم على «الأشقاء؟!!» العرب، استعلاء بعضهم، بل وساديته أحياناً وهو يتحدث عن «المصريين الشحاذين»؟ وبما أنه ليس للشحاذ ثمن، فلماذا يكون لنا ثمن؟ وأيضاً لقد شهد شاهد من أهلها.. فالحكومة ذات نفسها وبجلالة قدرها، ثمنت حياة المصرى بنحو خمسة آلاف جنيه!! كان أكرم لنا أن تصمت هذه الحكومة بدلاً من أن تجعل فضيحتنا بجلاجل.. إننى من جيل كان يكفى أن تشهد جواز سفرك، فى الستينات، وما إدارك ما الستينات، حتى تقرأ معانى الاحترام والتقدير فى عيون المقابل.. نعم لم نكن أثرياء.. ونعم خضنا معارك كثيرة وقاسية.. ولكن شتان بين نظرة الإشفاق ونظرة الاحترام.. حتى ونحن نتابع مشاهد العنف الإسرائيلى الوحشى والجثث الممزقة، لا نجد أثراً لتعاطف معنا وكل منا يخون الآخر ويحط من قدر الآخر ويهيل التراب على الآخر.. والنتيجة غرقنا جميعاً فى التراب!