فى ميراثنا العتيق وتاريخنا الشرقى الهوى والهوية، علمتنى جدتى أن الرجل مقدس.. هو السيد وهو الحصن والأمان.. وطفل مدلل فى بعض الأحيان. علمتنى أن أصون ولا أخون، وأن خيانتى هى موت آخر، والأموات لا يعودون. علمتنى أن أكون الواحة الخضراء فى كل الفصول.. أن أغزل له من ضفائرى الظل فى حر الأيام.. أن أنبت تحت قدميه آلاف السنابل والريحان.. أن أزرع الأزهار على شرفات الوجدان.. أن أرفف الثياب القديمة وأوجاع الزمن والآلام. أن أرضى بالقليل.. ومتعة التدبير.. بما يفوق الواقع بالخداع الجميل؛ فلهاث الطامع لا ينتهى، لكن الرضا كنز الأذكياء. علمتنى جدتى أن رخيص البضاعة يُلقى ليغتاله البعوض والذباب فى الطرقات أما نفيس اللؤلؤ هو ما يُصان فى مخمل الخزائن والحجرات.. هكذا أجساد النساء. علمتنى أن القرآن ليس مقصوراً على المآتم والأحزان وأن السواد لا علاقة له بزى الإسلام.. علمتنى أن أزهد فاكهة محرمة يشتهيها كل الرجال. وللحرية عند جدتى معنى آخر جميل.. فعلمتنى أن أكون أمرأة حرة لا تلين؛ حتى لا يطمع مرضى القلوب والعقول.. وأنه ليس اختياراً أن أصون ممتلكات رجل واحد من أيادى كل الرجال أو لا أصون.. علمتنى جدتى أن أدفن أنوثتى فى سابع قرار، مهما طال البعاد، فإذا عاد الحبيب تتفتح زهور آزار، وتبتسم شقائق النعمان وتخرج من ثباتها الشتوى كل الفراشات، وتفيق الأميرة النائمة وتنتهى تعاويذ الساحرات. علمتنى أن كل العلوم والإنجازات لا تكفى إذا لم أكن أجيد عمل ما يقتات به رجل واحد متعب بعد يوم عمل طويل. علمتنى أن مسوغات وجود الأنثى بها درجات إجبارية على عزف البيانو وتطريز أجمل الورود فى حياته وقلبه وصناعة حلوى تذوب فى فمه تنسيه مرار الأيام. لم تنسَ جدتى أن تشى فى أذنى ببعض مهارات النساء.. وكيف لامرأة متطرفة الأنوثة أن تأسر شهريار وتكون أميرته الشرقية فى لحظات.. جاريته الأثيرة فى لحظات.. فتروض ذلك المجنون المفتون المطعون من كل النساء اللاهث خلف كل النساء. علمتنى متى يكون حتى الابتزال مباحاً.. علمتنى باختصار كيف أختصر كل النساء. ولكنها لم تخبرنى كيف لى أن أمنع «مسرور» من استلال سيفه خلسة وذبح أنوثتى مع أول شعاع شمس كل صباح عندما ينام شهريار ويتركنى على أعتاب أدوار الرجال، ومسئوليات الرجال.. عندما يتخلى الرجال. كانت جدتى امرأة حكيمة تعرف مفاتيح الرجال لكنها لم تعرف أبداً مفاتيح رجال هذا الزمان. كم أشتاق لحضنك جدتى وبعض الحلوى تؤثريننى بها دون باقى الأحفاد.. كم أشتاق لرائحة العنبر تدخرينها من زيارتك الأخيرة لأرض الحجاز.. أشتاق حتى لدعابات النساء عندما يزهدن الحياء بعد طول الاقتناء فى حقائب أسفار العمر المديد فأختفى خلفك وأذوب خجلاً عندما تدرك العيون الخبيرة أن الطفلة الصغيرة أصبحت امرأة وفى بلادنا يالَإِرث النساء. أريد أن أبكى بين ذراعيك جدتى.. أن أفضفض لك بما صنعته الحياة بتلك الصغيرة المليئة بالحياة، بازدواجية مطالبة امرأة بكل الأدوار: الأم والمدرسة والخادمة والعشيقة والخليلة والعاملة والمسئولة والملتزمة بنصيبها من أسهم بورصة المساواة التى ترتفع مؤشراتها بجنون فى شراكة الواجبات وتنخفض حد الإفلاس فى شراكة الحقوق، لتظهر المسوخ ويصبح من المعتاد تبادل الأدوار والرق المقنن بتغاضى ذكور آخر الزمان عما يفهمه (ولا مؤاخذة) الحمار. كنت أشفق عليك جدتى من سجن الحرملك، وعبودية الياشمك، والنظر من خلف مشربية لا تُنفذ قدراً كافياً من النور لحياتك.. لكن يبدو أن حفيداتك استبدلنها بعبودية أشياء أخرى ألمحها فى أدخنة شيشة تخرج من أنف نساء تشبه قطارات البخار، أسمعها فى سعال الديوك بين أسنان يزحف عليها الاصفرار.. ألمسها فى ابتذال معلن فى الدواوين والمقاهى والطرقات.. فى افتقاد الحياء.. فى نهم الاقتناء.. لكل شىء بدءاً من الطعام إلى تقاليع ما أنزل الله بها من سلطان.. فكلانا يا جدتى يعانى عبودية أشياء.. بينما تخلى عن عباءته وطربوشه وعصاه سى السيد الهمام وجلس يلعب «بلاى ستيشن» فى انتظار عودة «المدام».