غرفة صغيرة في الطابق الأرضي، إذ لم تنتبه جيدًا لخطواتك، تنزلق قدميك، بداخلها "حصيرة بالية" و"تلفاز قديم"، هما الأثاث الذي تشمله الغرفة المنزوية بعزبة "حرب" ببولاق الدكرور، تتأمل أنحاءها فتجد أطباق وأواني الطهي، تشير إلى أن الغرفة تحتوي على المطبخ أيضًا. يجلس رجل ستيني على الأرض إلى جوار زوجته، وتحيط بهما أنواع شتى من العلاج، بالإضافة إلى "روشتات وآشعة" كثيرة، وكأنهما قضيا حياتهما في مستشفى وليس بغرفة، يتنقلان بين حين وآخر للضرورة القصوى، وذلك لسوء حالتهما الصحية. "أنا عملت حادثة من سنة ونص ومن ساعتها وأنا دايخ في المستشفيات، كنت راكب العجلة ورايح أكشف على عيني وماشي زي الرهوان، يوم فض اعتصام رابعة والنهضة، العربية شالتني طوحتني لآخر الدنيا"، قالها الحاج محمد سليمان (65 عامًا)، الذي ذابت قدميه من التنقل من مستشفى لآخر، أملاً في العلاج على نفقة الدولة، وبعد أن دفع 100 جنيه للأوراق اللازمة لإجراء العملية، رفضوا علاجه لأن الأوراق تتبع مستشفى الزقازيق. يتحدث عم محمد بعين ذابلة وقلب مفطور، يزرف دموعًا دافئة حزينة، يعجز الخد عن حملها، فتسرع حروف كلماته وتحتضنها، لتكشف عن هم ثقيل يحمله بمفرده على عاتقه، "روحت المستشفى الفرنساوي واتحجزت كذا مرة ومحدش عمل ليا حاجة، ولما دكتور عملي العملية، تعبت أكتر بعدها، وقولتله أنا بتطوح يمين وشمال ومش بعرف أمشي، قالي يا عم محمد دي عملية توسيع، وأنا أصلًا عرفت أن العملية فشلت وحالتي بقيت أسوأ". لم يكتف المرض بملازمة عم محمد وزوجته، بل أزمة الماء التي سابقته جعلت الحياة عسيرة وأكثر تعقيدًا، فهو لا يقدر على حمل الماء إلى المنزل، ولا زوجته أيضًا، يتابع: "الدم نزل في العمود الفقري ولزق في بعضه ومش عارف أتحرك، ومعايا ست كبيرة مريضة، مش بتقدر تملي ميه حتى وعندها خشونة في رجليها"، تقول زوجته: "في حنفية الناس حطوها ثواب بنملي منها الميه، وصاحبة الأوضة قالت لو عاوزين تدخلوا ميه هزود الإيجار، واحنا المعاش يدوب بيكفينا بالعافية". عم محمد لديه 4 أولاد جميعهم تزوجوا، وابنته الوحيدة مات زوجها مريضًا بالفشل الكلوي وترك لها 5 أبناء، لم يعرف اليأس قلب عم محمد يومًا فظل يتنقل بين طبيب وآخر أملاً في إجراء العملية والشفاء، يقول: "روحت كشفت عند دكتور ب20 جنيه، قالي أنت عاوز عملية، وأنا مش عارف أجيب فلوس منين، والعملية من 1000 إلى 7000 جنيه". الرزق الذي كان يحصله من "الطعمية"، زاد الأمر تعقيدًا بعد انقطاعه، فلم يصبح لديه قدرة هو وزوجته لبيعها بعدما سكن المرض أجسادهما، يسكن عم محمد في تلك الغرفة منذ العام 1984، بإيجار 50 قرشًا، أما الآن فصاحبة الغرفة رفعت قيمة الإيجار يقول: "صاحبة الاوضة فضلت تزود الإيجار من 5 ل 10 جنيه لحد ما قالت لينا الإيجار هيبقى 100 جنيه، وكانت عاوزة تاخد مننا العقد القديم وتكتب عقد جديد، بس أنا قولت لأ، وبدفع إيجاري في المحكمة". لم يجد عم محمد راحة في علاج، وشفاؤه متوقف على إجراء العملية، "العلاج كله مسكنات بينيمني لكن مش بيعمل حاجة وضهري بيفضل يوجعني، وراضي بقضاء الله، بس الحاوجة وحشة أوي والمرض هو الحاجة الوحيدة اللي ممكن تزل البنى آدم". رغم قسوة المرض وتغيره لمسار حياة عم محمد وزوجته، إلا أن أمله الوحيد هو إدخال الماء لغرفته، فهو يجد أن الشفاء بيد الله، وينهي كلماته قائلاً: "ده اللي سقيت كلب ربنا دخلها الجنة، ما بالك بقي اللي يسقي بنى آدم، ربنا هيجازيه بإيه".