الناس الطيبون الذين عرفتهم فى حياتى معظمهم ماتوا: ستّى ماتت.. ثم.. مات أبى بعد شهر ويومين، ومات صاحبى الذى كان يشاركنى التختة الأخيرة فى (رابعة خامس)، ولا أعرف أين قبورهم.. كنت أشمّ رائحة شال ستّى فى كل قبر أنام عنده فى (ظهر التمساح)، البلد التى ماتت فيها، أمّا أبى فمات ودفنوه وأنا فى امتحان التاريخ فى (أولى ثانوى)، ولم يخبرونى عن مكانه. حتى فَقدْتُ القدرة على الفرح أو الحزن، فأنا لا أعرف الكثير عن كيمياء السعادة، ولم تَعُد تؤثِّر فىّ أحداث كارثية.. كضياع مائة وخمسين جنيه من جيب بنطلونى.. أو موت عمى (مثلاً).. ضاع جزء من إنسانيتى فى سلة الذكريات وقبور الموتى يا ريما، ولم يبقَ منها إلا مسمار فوق حائط غرفتى علّقت عليه صورة لى وأنا طفل: لابس جاكيت أخضر على «بادى» أسود.. وأضحك ضحكة عبيطة جداً! كنت طفلاً مملاً، مكسوفاً دائماً، أراقب الدنيا من وراء شباك حجرتى.. فى مرة هربت من البيت بعد الساعة (اتناشر بالليل) بدون سبب، ليس هذا مهماً.. الغريب أننى أخذت شيئاً واحداً من البيت.. هو.. زجاجة الكولونيا (لا أعرف لماذا؟!).. ثم.. وجدتنى أمشى فى شوارع غريبة تجلس فيها ستّات عجائز (شبه ستّى) أمام البيوت، فخلَعْتُ ملابسى كلها ونمت فى حجر إحداهنّ! تلك العجوز سألتنى: بأى أرضٍ وُلِدت؟ وبأى أرضٍ تموت؟ قلت لها إننى خرجت أفتّش فى الأرض عن حياة غير حياتى.. وأبحث عن أرض جديدة، وأم جديدة، وست تجلِسْنِى على حجرها بدلاً من ستّى.. قلت لها: يا ست، أنا أبحث عن وطن جديد أشرب فيه قهوة وشاى بلبن.. ثم.. أبنى على أرضه قبراً أموت فيه.. عارفة؟.. أن تولدى فى مدينة ما ليس دليلاً على انتمائك لها، لكن المهم أن تستمتعى فيها بقهوتك.. ثم.. تموتى فيها!