«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ستَّة أقدام تحت الأرض
نشر في أخبار الأدب يوم 15 - 10 - 2011


I
ابقي كما أنتِ
أريدكِ هكذا
منكوشةَ الشَّعر
دون مكياجٍ
أو أحمرِ شفاهٍ يجعلني أتردَّد قبل أن أقرِّب شفتيَّ من شفتيكِ، دون طلاءِ أظافرَ أو مزيلِ عَرَقٍ أو عطرٍ تخبِّئين خلفه رائحتكِ الحقيقيّة، أريدكِ عاريةَ الرُّوح، مسلوخةً وبيضاءَ، ها هنا، جالسةً أمامي، مقيَّدةَ القدمين والذِّراعين ومفتوحةَ الفخذين، نحتاجُ أن نتحدّثَ طويلاً قبل أنْ نتفاهمَ، نحتاجُ أن نهبطَ إلي السَّراديبِ المعتمة كي نفتحَ صناديقنا المخبَّأةَ بعنايةٍ، تلك التي تراكمتْ فوق أغطيتِها طبقاتُ الأتربةِ والغبارِ وعشَّشتْ فوقها العناكبُ، هذا الصُّندوقَ مثلاً، نعم، هذا، البنِّيَّ العريضَ، افتحيه، ستجدين بداخله كلَّ الصِّورِ التي التقطناها لوجهينا السَّعيدين حين كنَّا صغيرين، غافلينِ عمّا نحن فيه الآن
هذا الصُّندوقَ هناك، هل ترينه، ستجدين بداخله كلَّ الأماكنِ التي سرقنا فيها قبلاتِنا المحمومةَ: سلالمَ عمارات القاهرة العاليةِ التي ليس لها حرّاس، كورنيش اسكندريّة ومقابرَ ميلان وشوارعَ بورسعيد وميدانَ طلعت حرب وقريةَ الفرعونية ومدينة السَّلام وليل مدريد وجلافةَ بروكسيل وصيفَ كتالونيا ووسط البلد وموڤمبيك المطار وشيراتون الأسكندريّة وأوراسي الجزائر وقحط المنامة، كلّ الأماكن التي تركنا فيها ما يدلُّ علينا، هل تذكرين، هنا مثلاً قبَّلتكِ للمرة الأولي، في هذا الممرِّ الطَّويل بفندق ثلاث نجوم علي بحرِ اسكندريّة، كنتِ خارجةً من حمَّامكِ الصَّباحيِّ، وكنتُ أحاولُ تهجِّي ألوانِ عينيكِ وأنا أختبئ من ضوءِ الشَّمسِ الذي يعميني عن النَّظر في الأزرقِ السَّماويِّ الذي لا تحدُّه شطوطٌ.
II
أحتاج الآن
أن أفتحَ أصابعَكِ هذه
وأضعَ روحي بينها
كما لو كنتِ طفلةً صغيرةً
أعلِّمها كيف تقبضُ علي لعبتِها الجديدةِ
الأرواحُ لعبٌ يا حبيبتي، الأجسادُ أيضًا، ثمَّة دائمًا ما يمكن لنا أنْ نحوِّله إلي لعبةٍ نُلهي بها وقتنا، تصوَّري مثلاً أنَّني الآن مستعدٌّ أن أجعلكِ ترين أحشاءَك وهي تخرجُ من بطنكِ الجميلِ هذا، فقط بحركةٍ واحدةٍ من نصلِ هذا الخنجر، وستجدينها كلَّها أمام عينيكِ، لطالما كنت أرقبُ أمّي وهْي تنظِّف الدُّجاجَ والبطَّ والإوزَّاتِ والأرانبَ قبل أن تضعَها في الديب فريزر
كنت أحبُّ هذه اللحظاتِ،
وهْي تهيّئ هذه اللحوم طازجةً ومستعدّةً للطهو في حال زيارةٍ مفاجئةٍ أو ضيوفٍ طارئين، وهْي تفصلُ المعدةَ عن الأمعاءِ وتُزيلُ الدّمَ الأحمرَ القاني المتجلّط وسْط اللحمِ، وهي تنتفُ الرّيشَ بالماء المغليِّ وتفتحُ بالسكِّين عند الصَّدر، وهي تفصل غرفَ القلبِ وتغسلُه بالماء النَّظيفِ، لا يمكنُ لامرأةٍ ما أن تكون محترفةً مثل أمّي في تنظيفِ الطّيورِ المذبوحةِ، كنت أجلسُ منبهرًا كأنَّني أتفرَّجُ علي ساحرةٍ تريني ما لم أره من قبلُ، أنظرُ إلي أصابعها السَّريعةِ المدربَّةِ وأتخيّلُ كم كان هذا الدّيكُ جميلاً وهو يطاردُ دجاجاتِه منذ قليلٍ، كم كان ريشُه يلمعُ تحت الشَّمسِ وهْو يعدو خلفهنَّ متباهيًا بذكورتِه، لذا لا تخافي، اطمئنِّي تمامًا، حركةُ الخنجرِ لن تشعرَكِ بشيء، اللَّهمّ بسحْبةٍ خفيفةٍ لروحكِ، كما لو أنَّ عصا الكمانِ التي طالما أحببناها في موسيقي "الأب الروحي" قد مرَّت سريعةً وخاطفةً علي بطنكِ العاري.
III
قطرةُ ماءٍ واحدة، وسأجعلكِ تُصابينَ بالجنونِ، التّعذيبُ والتّنكيلُ شيءٌ سهلٌ، لا يحتاجُ إلي خبراتٍ أو كتبٍ لنتعلّمَه، في مكانكِ هذا، وعلي مقعدكِ الجميلِ الملتذِّ الآن بسخونةِ ردفيكِ الدَّافئين، سأجعلكِ تعرفين معني العتمةِ، معني البرودةِ، معني أن تكوني وحيدةً تمامًا، عاريةً تمامًا، ومسلوخةً تمامًا، هنا، في هذا المستطيلِ الصَّغيرِ سأجعلكِ تعرفين قدْرَ نفسكِ، لن أفعلَ فعلَ الأغبياء وأبدأَ في خلعِ أظافركِ الجميلةِ المنمَّقةِ المبريّةِ جيّدًا واحدًا تلو الآخر، هذا فعلُ الضُّعفاء، ثمَّة ما يمكن فعله والاحتفاظُ بجثَّتكِ سليمة، سأحتاجُها فيما بعدُ، حين أحملكِ عاليًا وأرميكِ من النَّافذة علي رؤوس المتجمهرين تحت نافذتي يطالبون برأسِك، فهم أولي منِّي بلحمكِ،
نهمُهُم لن يشبعَ إلا بالتهامكِ قطعةً قطعةً، كما فعلوا ب"جان باتيست غرنوي"
لست مخمورًا
أنا صاحٍ تمامًا
تظنَّين أنَّني بدأت أدوخُ من فعل زجاجتين حقيرتين من النَّبيذ الأحمر؟
هااا؟!
لا، اطمئنّي
شربتُهما نكايةً في دمكِ
يا "محبَّةُ".
يقالُ إنَّ الرَّجال يفضِّلون النَّبيذَ الأحمر القاني، فيما تفضلُّ النِّساء النَّبيذ الأبيض، طبعًا ثمَّة استثناءات في الأمر، لكن هذا ما يُقالُ، طيِّب أخبريني أنتِ: لماذا؟! شغَّلي مخِّك، برافو!، شاطرة!!، ما قلتهِ صحيح تمامًا، الرِّجل يري في النَّبيذ الأحمر دمَ بكارة أنثاه، فيما تري المرأة في نبيذها الأبيض مَنيَّ رجلها، طبعًا من الغباء أن نبسِّط الأمور علي هذا النَّحو السَّاذج، لكنَّه علي كلّ حال ليس بعيدًا عن الحقيقة، ها نحن نعودُ من جديدٍ إلي الثنائيّة الغبيَّةِ التي تحكمُ عالمَنا الحقيرَ، ذكرٌ ومؤنَّثٌ، مؤنَّثٌ وذكرٌ، يبدو أنَّنا مجبلون علي التَّخريفِ وتحويلِ كلّ شيء لدينا إلي جنس
هه؟
ماذا؟
نبيذٌ؟!
آها، ولِمَ لا
سأعتبرها أمنيتَك الأخيرةَ
أحمرُ...
... أم أبيضُ؟
IV
كأسك يا "محبَّة"
في صحَّتكِ وصحَّةِ روحكِ
أتفه شيءٍ فينا هو الرُّوح، وأصلبُها أيضًا، أتعجَّبُ أصلاً من هذا الشيء غير المحسوسِ فينا، لو كنتِ فهمتِ روحي، لو كنتِ فقط حاولتِ، ما كنَّا الآن نجلسُ جلستَنا الحقيرةَ هذه، أنا أقفُ أمام طاولةٍ مفروشةٍ بالمقصَّات وأمواسِ الحلاقةِ والسَّكاكين ذات الشَّفراتِ الحادَّةِ والملاقطِ والدَّبابيسِ، وأنتِ تجلسين مقيّدةَ الذَّراعين والقدمين علي مقعدٍ مثبَّت في هذه الغرفة المعْتمةِ
في الحقيقة أنا لستُ نادمًا علي السِّنين التي ضيَّعتُها معكِ يا "محبَّة"، أنا فقط حزينٌ علي نفسي، حزينٌ علي روحي التي تجعَّدتْ تمامًا وصارتْ لا تصلحُ لشيء، أفسدتِ كلّ شيء بغبائكِ، لم تحاولي قطُّ أن تمدِّي رأسَكِ المغرورَ خارج شرنقةِ ذاتكِ كي تطالعي العالمَ من الخارج، الأنانيّةُ موهبةٌ لا يملكها الكثيرون، وأنتِ محترفةُ أنانيّةٍ، كنتُ أجلسُ بالسَّاعات تحت قدميكِ كي أسترضيكِ وأحاولَ تفهّمكِ، وأنتِ كما أنتِ، رأسُكِ حجر، الغباءُ أيضا موهبةٌ، كان صديقٌ لي يقول "الغبيّ ظالم"، وأنتِ ظلمتني يا "محبَّة"، لذا لا تغضبي حين أصطادُ روحكِ بصنَّارة كآبتي وخيبتي فيكِ، وأرفعُها عاليًا كما لو كانت طفلتي الأخيرةَ، ثم أتركها تسقطُ في ماء الذِّكري، وأنا فاقدٌ لأيّ أمل في اصطيادِ ولو سمكةٍ صغيرةٍ ترسمُ ابتسامةً ملتذَّةً علي وجهي.
V
الجسدُ...
تعالي نبدأ من الجسدِ...
فالرُّوح أمرُها صعبٌ ومعقّدٌ،
الجسدُ أسهلُ
قطعانُ الخرافِ المهرولةِ خوفًا من سِكِّينةِ الذِّبحِ
خوفًا من ماكينةِ جزِّ الصُّوف المشهَرةِ في أيدي الغرباءِ وتركِها ببشرةٍ مكشوفةٍ في ليالي الشِّتاء الباردةِ
هذا الجسد الذي أحمله أينما سرتُ، أو قولي الجسدُ الذي يحملني، ما عدتُ أعرف أيًّا يحملُ الآخرَ أصلاً، أبدو أمامكِ الآن كأنَّني من يسوقُه، مثل راعٍ فقيرٍ في الصَّحراءِ يهشُّ بعصاه علي عنزةٍ واحدةٍ، وعصاه طويلةٌ كأنَّه يمنِّي نفسه بعنزاتٍ أخرياتٍ
تعالي نبدأ من الجسدِ، جسدِكِ أو جسدي
الأمرُ سيِّان، جسدانا الآن يشبهان عملةَ نقدٍ ترفُّ علي جنبِها
دون أن تسقطَ
وتنحازَ إلي ملكٍ أو كتابةٍ
جسدانا
بكلِّ ما فيهما من قرفٍ
وعصاراتٍ
وأنزيماتٍ
ودمٍ
وتقيُّحٍ
ودماملَ
وبثورٍ
وشعيراتٍ قابلةٍ للنَّتفِ
وأخري تستعصي علي النَّتف
بروائحه وإفرازاته ودموعه وعرقِه ودهونِه وشحومِه
شيءٌ مقرف فعلاً أن أتحدَّث الآن أمامكِ عن جسدينا بهذا الشكل، ههههههه، لا بأسَ، ستتعوَّدين علي كلامي الغبيِّ، ياما تعوّدتُ عليكِ وعلي أفكاركِ الغريبةِ، ثمَّ من قال إنِّني بهذه الطَّريقة في الحديثِ أحطُّ من قيمة الجسدِ، أبدًا، أحبُّ جسدَكِ كما أحبُّ جسدي، ألم يكن جسدُكِ هو البوَّابة الأولي لي كي ألجَ إلي روحِكِ، تصوَّري مثلاً لو أنَّكِ كنتِ قبيحةً ودميمةً ومنفوخةَ الأنف وتتمايلين كإوزّة حين تسيرين، هل كنتُ سأحبُّكِ؟ طبعًا لا، المسألةُ ليست بهذه البساطةِ، تحتاج عيونُنا أيضًا إلي الجمالِ كي تسكرَ، بعدها يسكرُ القلبُ، ثم تسكرُ العواطفُ، أرأيتِ كم جميلةُ كلمةُ "العواطفِ" هذه، كلمةٌ من أفلام السَّتينيّات لكنَّها جميلةٌ ونحن نقولها اليوم فنشعر بغباء النوستالجيا، ثم من قال إنَّ حديثي هذا يضايقُ أحدًا؟
قلت لكِ
الجسدُ بوَّابتنا الأولي
بابُ الخطيئة
وأبوابُ مغفرةٍ مؤجلةٍ
أمرُه أسهلُ من الرُّوح بكثير
وإلا لماذا كلَّما وقعتُ تحت قدميكِ كما أنا الآن
تألمَّتْ روحي
واكتفي جسدي بنوَّارٍ أحمرَ
اسمه الدَّم؟!
VI
الدّم...
أجملُ كلمةٍ في اللّغةِ، أرأيتِ، كلمةٌ من حرفين فقط، وتفعل فينا كلَّ هذا التَّأثير، ليس غريبًا إذن أن يكونَ اسمي الصَّغير محتويًا علي الحرفين ذاتِهما، أستطيعُ أن أشكِّلَ عددًا كبيرًا من الكلمات من حروف اسمي الأربعةِ: دعمٌ، دامٍ، مادَ، آدمُ، دمعٌ، أمدٌ، عمدٌ، دع، عادَ، دمٌ، عدمٌ..
جميلةٌ كلمةُ "عدم" هذه؟!
ناهيكِ عن الاشتقاقاتِ التي لا تُحصي من هذه الكلماتِ، لكنْ... مهلاً، لا نريدُ أن نذهبَ بعيدًا، لنركِّز في الدَّمِ، قلتُ من قبلُ "اغمضي عينيكِ كي لا تجرحكِ نظرتي وهْي تخربشُ سريانَ الدِّم السَّاخنِ في وريدكِ"
الليلةَ
لا أريدُكِ أن تغمضي عينيكِ، افتحيهما تمامًا، أريدُ لكلِّ نظرةٍ من عينيَّ أن تخربشَ سريانَ الدَّمِ وهو يجري دافئًا في وريدِك، بل في أوردتِك، كوني علي يقينٍ تامٍ بأنَّني الليلةَ سأجمِّد الدم في عروقك، ببطءٍ، ورويّةٍ، وهدوءٍ، ليس ورائي شيء، أنا فاضي، متفرِّغ تمامًا لأجل حفلِنا الليلةَ
بالمناسبةِ؛ قرأتُ اليومَ عن عشيقٍ صيني قتلَ عشيقتَه واحتفظَ بجثَّتها في الدِّيب فريزر، ثم أكلَها قطعةً قطعةً، عضوًا عضوًا، طبخَها كما لو كانتْ أرنبًا اشتراه من السّوبر ماركت أو اصطادَه من حديقة جاره الخلفيّةِ، أليس هذا دليلاً قاطعًا علي محبَّته لها، هل سمعتِ يومًا عن محبٍّ بهذا التَّفاني في حبِّه، هذا التوحُّدِ والتَّماهي مع حبيبتِه، طبعًا ستقولين لي إنَّ "الصِّينين يأكلون القرودَ، فما بالكِ باللحم البشريِّ!"، لعلمكِ: اللحمُ البشريُّ صعبٌ جدًّا أنْ يؤكلَ، يععععع، أعتقدُ أنه مرٌّ، زنخٌ، مقرفٌ، لزجٌ، وفوق هذا، سيكون مثل اللحمِ الجمليِّ حين يُطبخُ، اخيييييه، لطالما كرهتُ مشاهدةَ Anthony Hopkins وهو يأكلُ من رأسَ Ray Liotta في "هانيبال"، إذا كنتِ لا تصدِّقينني نستطيعُ أن نجرِّب، عندي ملحٌ وتوابلُ مجلوبةٌ من الهند والقاهرة وحلب، أمِّي بنفسها أعدّتْ لي خلطةً سحريةً من توابلِها السنةَ الماضيةَ، سأدوسُ علي معدتي بالجزمةِ وأقومُ لأشعل النَّار
وحتي أعودَ
قرِّري أيّ عضوٍ ستهدينني إيَّاه
كي يكونَ عشائي الليلةَ.
VII
هل تضايقكِ الموسيقي؟
هل أشغِّلُ لك "كارمينا بورانا"؟
أم نجلسُ هكذا في العتمة والسُّكوتِ
بصراحةٍ؛ لم أعدْ أطيقُ لا العتمةَ ولا السُّكوتَ ولا الكلامَ ولا الصَّمتَ ولا التَّحديقَ في الفراغِ
تعبتُ من الكلامِ والصَّمتِ والتَّحديقِ في الفراغِ
تعبتُ منكِ ومن نظرتكِ المحدِّقةِ فيَّ هكذا
تشربينَ شيئًا؟!
عندي ويسكي وفودكا ونبيذٌ أحمرُ ونبيذٌ أبيضُ وشمبانيا وبيرةٌ من خمسةُ أصنافٍ مختلفةٍ وبكاردي، عندي أيضًا شايٌ وينسون وبنٌّ مصريٌّ محوَّجٌ ونعناعٌ طازجٌ اشتريته اليوم من السوقِ، تريدين عصائرَ، افتحي الثَّلاجةَ وخذي ما تشائين، لا أحرمُكِ من شيء يا "محبَّة"، السنواتُ التي مرَّتْ علينا سويًا تجعلُني أحبّكِ رغم كلِّ شيء... في النِّهاية هي عِشْرةُ عمر، عَيشٌ وملحٌ ونبيذٌ وجبنٌ وخبزٌ وقيءٌ ودمٌ ومَنيٌّ وشهدُ فرجِكِ، شيءٌ صعبٌ أن نمحوَ كلّ هذا بجرَّة قلمٍ، ونقولَ الآن إنَّنا نتبادلُ الكراهيةَ، هل تكرهينَنِي، صعبٌ أن تقولي هذا، صحْ؟!
أنا أيضًا لا أكرهُكِ
الكراهيةُ موهبةٌ لا يملكها الكثيرون، مثلها مثل الأنانيّةِ، فكرتُ يومًا أن أكتبَ شيئًا عما نحن فيه الآن، لكنْ تصوَّري لو فعلتُ، ماذا سيظنّون بنا..؟!
ربما يفكرون أنَّني أشهِّرُ بكِ، أو أنَّني قررتُ أنْ أفضحكِ، أعوذ بالله، أفضحُكِ؟، أنتِ؟!، أوووووف، النَّاس أصبحتْ بشعةً في زماننا هذا يا "محبَّة"، الواحدُ من هؤلاء يسمحُ لنفسه بكلِّ شيء ويحرمُ الآخرين من كلِّ شيء، تصوَّري أن أكتبَ عنكِ نصًا قبيحًا وركيكًا ولا علاقةَ له بالشِّعر لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، بعنوان "ستَّة أقدام تحت الأرض"، أستغفرُ الله!، ماذا سيقولون عنِّي؟؛ لم يحفظِ الجميلَ، دنيءٌ، حيوانٌ، حقيرٌ، واطي، سيقولون كل هذا، صدِّقيني، لذا تراجعتُ تمامًا عن فكرةِ الكتابةِ.
الكتابة إفسادٌ دائمٌ للأشياءِ، فضَّلت أنْ نبقي هكذا، دون نصٍ يفضحُنا
أو ينشرُ غسيلَنا الوسخَ أمام النَّاسِ.
VIII
إذا كنتِ تعبتِ من الجلوسِ كلَّ هذا الوقتِ فوقَ مقعدكِ، تعالي هنا، بجواري، فقط حرِّكي قدميكِ وسينفكُّ الحبلُ، لا أستطيعُ أصلاً أن أقيِّدَكِ يا عبيطة، نعم، هكذا، اقتربي، تمدَّدي ونامي علي صدري، أحبُّ أن ألعبَ في شعركِ الأسودِ الجميلِ مثلما كنتُ أفعل قديمًا، تعرفين هذه الحركةَ، تجعلني أغمضُ عينيَّ وأنا أتنشَّق عبيرَ لحمكِ طازجًا وبريئًا من أيّ عطرٍ. العطورُ كارثةُ الجنسِ البشريِّ، كلُّ امرأة تظنُّ أنّها بالعطرِ تستطيعُ سحبَ الرَّجلِ إلي السَّريرِ، واسألي "جان باتيست غرنوي"، لكن هذا لا يمنعُ أنَّني أحبُّ عطرَكِ، أقصدُ عطورَكِ، أقصدُ تحديدًا روائحَكِ، فرائحتُكِ هي بالأحري معجمُ روائحَ
هنا مثلاً
أشمُّ رائحة شجرٍ غريبٍ يسكنُ بداخلي مذ كنتُ هرًّا صغيرًا
وهنا، فوق الحلمةِ اليمني، أشمُّ بكائي وأنا طفلٌ علي صدرِ أمّي
وهنا، فوق الحلمةِ اليسري، أشمُّ شهوتي فيكِ
وهنا، في الخطِّ الفاصلِ بين نهديكِ، أشمُّ بكائي، وهواني علي النَّاس
وهنا، علي كتفكِ اليمني، أشمُّ إغفاءتي علي كتفِ أبي وهْو عائدٌ في الليل يجرُّنا إلي أسرَّتنا
وهنا، تحت إذنكِ اليمني، أشمُّ إنصاتكِ لي، وتلصُّصكِ عليَّ
تحت قبَّتي نهديكِ لا أشمُّ شيئًا
لكنَّني أري قلبَكِ شفَّافًا يضخُّ الدّمَ الأحمرَ ويوزِّعُه بالعدلِ علي شرايينِك
وهناك، فوق السُّرَّةِ الملفوفةِ المدوَّرةِ الغائرةِ في اللحمِ
أشمُّ رائحةَ آدمَ وإيليا صغيرين يحبوان تحت قدميَّ
غريبٌ أن أشمَّ رائحةَ طفليَّ الصَّغيرين من بطنكِ يا "محبَّة"
في النَّهاية لا أنتِ أمّهما ولا أنت أمِّي، ثمَّ من قال إنَّكِ تصلحينَ أصلاً أن تكوني أمًّا؟، هه؟!، قومي عنِّي، لا أريدكِ بجواري، لا أريد شعرَكِ ولا كتفيكِ ولا نهديكِ ولا حلمتيكِ ولا سرَّتكِ ولا بطنكِ ولا روائحَكِ
يكفي...
... اختنقتُ.
IX
أفزعتُك؟!
منذ متي وأنتِ تخافين، هل تخيفُكِ هذه الطاولةُ الصغيرةُ وما عليها، ماذا يضيرُكِ أنْ أسلخَ جلدَكِ الآن أو أقطِّعكِ إلي ألفَ قطعةٍ ثم أشويكِ وأرميكِ لكلاب الشَّوارعِ
ألستِ ميِّتةً؟
أنت ميِّتةٌ
ميم، ياء، تاء، تاء مربوطة
م يِّ ت ة
هل صعبٌ عليكِ أن تفهمي الكلمةَ
شغِّلي مخَّك قليلاً
أو انظري إليَّ وستفهمين
الميِّت يشبهني كثيرًا، مثلي تمامًا، فاقدٌ لأي إحساس، حجرٌ
لا ينطقُ ولا يري ولا يسمعُ ولا يشعرُ ولا يشمُّ ولا يتذوّقُ ولا يضحكُ ولا يبكي ولا ينتحرُ ولا يأكلُ ولا يشربُ ولا يسهرُ ولا يسكرُ ولا يكذبُ ولا يصْدُقُ ولا يصحو ولا ينامُ...
ناهيك عن أنَّه يخلو من الحرارةِ، باردٌ مثلَ حطبةٍ، مثلَ قبرِكِ هذا. لا أفهمُ لماذا لا يُنشئون قبورًا تناسبُ الميِّتين أمثالَنا، بذمَّتكِ ودينكِ، هل هذا القبر الموحش هو ما تستحقّينه بعد كلِّ حياتِكِ الحافلةِ يا "محبَّة"، كلُّ الذين كتبوا عنكِ ونصَّبوك فوق عرشكِ العالي ماتوا ميتاتٍ أكرمَ من ميتتكِ هذه، علي الأقل منهم من يرقدُ الآن في قبور خمس نجومٍ، مرفَّهين، تركوكِ تسقطينَ هكذا عن عرشكِ المذهَّبِ، باعوكِ بأبخس ثمن وضحكوا عليكِ، بصراحة أنتِ خُدعتِ، أعطوكِ خازوقًا، ويبدو أنّ القدرَ لم يجدْ غيري كي يقتصَّ منهم فيكِ، أو يقتصَّ منكِ فيهم، أو يقتصَّ منِّي، أنا التَّافهِ الواقفِ أمامكِ الآن
أهتزُّ مثل نبتةٍ في الرِّيح
كلَّما رفعتِ إليَّ عينين ناعستين
وأتضاءل مثل فأرٍ
إن أنزلت جفنين مندَّيين بالدَّمع.
X
تصوَّري أن تكوني ميِّتةً فيما الآخرون يدوسون علي ترابٍ كان في القديمِ أحدَ أعضائِك، كان عظمةً من عظامِك.. لسانَكِ مثلاً، قلبَكِ، شفتيكِ، نهديكِ، ساقَكِ أو بطنَكِ أو ظهرَكِ أو عانتَك، أيَّ شيء منكِ، المهم أنَّهم يدوسون عليه بأحذيتِهم الوسخةِ أو المدبَّبةِ أو المفلطحة أو العالية ذات الكعوبِ المسنونة، حياةٌ رخيصةٌ وتافهةٌ وأحقرُ من وقفتي هذه أمامكِ، مذْ جئتُ إلي هنا وأنا أفكّرُ أين سيدفنونني، هنا أم هناك، أين سيكون قبري؟، إن دفنتُ هنا سأكون بعيدًا عن أمِّي، وإن دفنتُ هناك سأكون بعيدًا عن طفليَّ، شيء بشعٌ أن يموتَ المرءُ وهو لا يعرفُ أين سيكونُ مثواه الأخيرُ، هل سألوكِ حين دفنوكِ هنا؟ أرأيتِ، سفلةٌ، أولادُ قحابٍ في الحقيقة، لو كانوا سألوكِ لربّما اخترتِ مكانًا يليقُ بقبركِ الأخير أفضل من هذا
عن نفسي لم يسألني أحدٌ، وحتي لو سألني، ما كنتُ أعرفُ كيف سأجيبه
كنتُ أنامُ، وكلَّ ليلةٍ أقيسُ المسافةَ بين قبري وبيتِ أمّي، وكلَّ ليلة تكبرُ المسافة يا "محبَّة"
أضعُ طرف المقياسِ بيدٍ مرتعشةٍ علي بابِ أمّي، وأشدُّه وأنا أسيرُ إلي بابِ قبري، وتكبرُ المسافة
في الحقيقة، لا أعرف إذا كانتْ المسافةُ هي التي تكبرُ، أم أنَّني أنا من يشيخُ، لذا تعبتُ من حسابِ المسافاتِ، أرحتُ دماغي وقلتُ: ليكنْ ما يكونُ، أليس هذا أفضل، لماذا نحيِّرُ أنفسَنا بالموت ما دمنا أحياءَ؟
هاااا؟
مرهقة؟!
نامي، وهذه المرَّة، سأحاول أن أقيسَ المسافة بين قبري وسريرِك
أو سريري وقبرك
الأمر - كما قلت - سيَّان
تصبحين علي خير...
يا "محبَّة".
شاعر مصري مقيم في بلجيكا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.