كوبرى خرسانى ضخم على طريق مصر - الإسكندرية الزراعى؛ يعتلى نهر النيل عند مدينة كفر الزيات، يتسع للمئات من سيارات النقل المرابطة به منذ أسبوعين. عدد السيارات هنا يزيد كل دقيقة باختيار السائقين حيناً أو بإجبارهم على التوقف أحياناً أخرى. السيارات هنا لا يتحرك لها ساكن، متراصة بشكل هندسى على جانبى الطريق كأنها بالميناء تنتظر شحن الحمولة أو تفريغها؛ لكنها ما أتت إلى هنا لذاك السبب. سيارات الأمن المركزى ومدرعتان وسيارة إطفاء موجودة بالمنطقة لمنع السائقين من غلق الطريق، وسبق لها أن تدخلت ومنعت ذلك بالقوة. دخل السائقون فى إضراب عن العمل حتى تنفيذ مطالبهم، التى يرون أنها مشروعة. تشعر بأن الحياة متوقفة هنا بمدينة كفر الزيات، التى يمتلك أهلها وحدهم أكثر من ألف سيارة نقل. الجراجات مليئة بالشاحنات، بما فيها سيارات نقل أسطوانات البوتاجاز، الهدوء يسيطر على أرجاء المدينة، السحب المنخفضة المحملة بالمياه حجبت أشعة الشمس الدافئة، ونشطت رياح باردة، تلاها سقوط أمطار غزيرة، لم يعبأ السائقون بكل هذه الظروف واتخذوا من السيارات والمقطورات مأوى لهم، يقيهم شر البرد والمطر، وناموا أسفلها على الرصيف تغطيهم بطانية مهلهلة لزوم الشقاء، وما إن انتهى المطر خرجوا جميعاً من حيث لا تدرى. تناول بعضهم طعام العشاء الذى لا يزيد على 3 أصناف أو صنفين وهو غالباً الفول والطعمية، ثم تطوع أحدهم بإعداد الشاى. يعيش هؤلاء بالمنطقة منذ أسبوعين بجانب سياراتهم، رغم تعودهم على الإقامة والمبيت خارج المنزل أثناء عملهم فإنهم شكوا من الأمطار، وقضاء حاجتهم بالطرقات. فى بداية الكوبرى، جلس أحمد إبراهيم -سائق من زفتى غربية- يشكو لزملائه الذين لا يعرفهم من خطورة تأخير وصول البضاعة التى يحملها بسيارته، حيث أجبر هؤلاء بدون سابق إنذار على الانضمام إلى الاعتصام، وعندما أبدى ضيقه لطلبهم، أقدم أحد الأفراد المعتصمين على كسر زجاج كابينة السيارة النقل التى يقودها مما سيكلفه حوالى 1500 جنيه ثمن الزجاج الأمامى، يتفق أحمد مع مطالب المعتصمين، رغم أنه لا يعرف معظمها، لكن أقساط السيارة و«الكاوتش» يفرضان عليه عدم التأخير، وإلا سيتعرض صاحب السيارة للحبس، وإذا تلفت البضاعة التى تحملها سيارته فيتحمل السائق ثمنها مهما كان؛ لأنه وقع على تعهد بضمان توصيلها سالمة إلى التاجر. جميل السيد يعقوب، 53 سنة، أمسك بطرف الحديث وقال فى حدة: مررنا على المضربين صباح اليوم ولم يعترضونا؛ لكنهم أجبرونا على التوقف والانضمام إليهم قبل المغرب، ونسوا أن علينا التزامات وتعاقدات يجب أن نوفيها فى موعدها، وهم فى النهاية سائقون مثلنا. على بعد 200 متر من هؤلاء وجدت مجموعة كبيرة من السائقين وأصحاب السيارات النقل يتحدثون فيما بينهم عن إهمال الحكومة لمطالبهم، رغم الخسائر التى تلحق بالدولة جراء الإضراب، يرون أنهم فئة مظلومة لم تقم بتنظيم مظاهرات وقت أن خرجت فئات عديدة من المجتمع تطالب بحقها وتحسين أوضاعها، يحزنون لعدم الاستماع إلى شكاواهم والعمل على حلها، بل يتم وصفهم بالبلطجية، تعاطى المخدرات تهمة أساسية ملتصقة بهم، لا ينكر السائقون تلك التهمة عندما سألتهم عنها؛ لكنهم قالوا نحن مضطرون لذلك لعدم النوم أثناء السير بالطريق، كما أن الحكومة لا توفر لنا استراحات بالطرق، وعلينا إذن أن نسير لمدة تزيد على 20 ساعة متواصلة بدون نوم، وإذا نام أحدنا فى الطريق فإنه يعرض حياته للخطر من قبل قطاع الطرق والبلطجية، عند ذكر تلك الكلمة تعالت أصوات الجميع حيث ذكر كل منهم قصته عن ذلك. يوسف الصياد، 25 سنة سائق، خلد للنوم بداخل كابينة السيارة بجوار كمين للشرطة، عله يفيق ويكمل طريقه الطويل، لكن مجموعة من البلطجية قامت بتخدير الكابينة بعد رش مادة منومة بداخلها، فاستغرق فى النوم مع مساعده، وما إن فتح عينيه؛ اكتشف سرقة 6 وحدات «كاوتش» من السيارة والمقطورة، ثمنها 30 ألف جنيه، وقع لصاحب السيارة على إيصال أمانة، وقسط المبلغ له لأن السيارة كانت فى عهدته، توجه إلى كمين الشرطة يبلغهم بالسرقة دون جدوى. ويقول يوسف: نقوم بتغيير كاوتش السيارات فى أقل من 5 دقائق فقط خوفاً من قطاع الطرق؛ لأننا نسير عُزلاً من السلاح، فالطرق الآن غير آمنة. قصص مماثلة سمعتها من السائقين، محمد فرح سائق، شكا أيضاً من الإتاوات التى يفرضها بعض البلطجية عليهم عند بوابات ميناء الإسكندرية والدخيلة، رغم أن سن هؤلاء لا تزيد على 20 سنة لكنهم مسلحون بأسلحة نارية وبيضاء نتقى شرورهم بدفع 5 جنيهات كل مرة، يتعجب فرح من قرار إلغاء المقطورات لتسببها فى وقوع حوادث حسب قول المسئولين، ويرى أن المقطورة أكثر أماناً من «التريللا»؛ لأنها مؤمنة ب 3 بنز، بينما التريللا مؤمنة ببنز واحد فقط وضعيف (البنز هو مسمار من الصلب يوضع من أعلى لتأمين ماسورة الربط من عدم الإفلات)، فضلاً عن أن حمولة «التريللا» مركزة على الربع الأمامى للسيارة -حسب وصفه- ولا يستطيع سائقها التحكم فيها عند الفرامل، وعند الضغط عليها تحدث رقم سبعة «v» حيث يجد السائق التريللا بجواره، عكس المقطورة التى تكون ثابتة بمكانها بمجرد انقطاع خرطوم الهواء عنها، بجانب أن منطقة ارتكازها بالوسط. وأرجع محمد فرح قرار الحكومة بإلغاء المقطورات بانتهاء أحد كبار رجال الأعمال من استيراد المقطورات فى 2008، وبالتالى لم يصدر القرار إلا بعد ذلك التاريخ وبدأ فى استيراد التريللات حالياً، ويحاولون بيعها لنا، وأردف: «من المستحيل تحويل المقطورات إلى «تريللات، هذا القرار هيخرب بيوت كل الناس دى». وتابع فرح: أى حادث طريق يلصق بسيارت النقل ذات المقطورة، وكأن أصحاب السيارات الأخرى ملائكة أو خبراء طرق، بل إذا صدمتنا سيارة ملاكى من الخلف حتى إذا كنا متوقفين بجانب الطريق يتحمل سائق السيارة النقل المسئولية ويحبس، هو فى نظر الحكومة الجانى دائماً، الذى لا يسأل عنه أحد، إذا أصيب أو مات فى أى حادثة، أليس بشراً مثل كل الناس، الذين يتهموننا بالبلطجة وتعاطى المخدرات، وأشار إلى زميل لهم أصيب فى حادثة لم يهتم به أحد وحبس. وعن الحمولة الزائدة، قال محمد عبدالحميد نصار، 68 سنة، من شيوخ السائقين بكفر الزيات، إنهم لا يعارضون تحديد حمولة السيارات حسب الرخصة، مع زيادة 10 أطنان عن الحمولة الأساسية وتغريم من يخالف ذلك بألف جنيه عن كل طن، ويطلب أيضاً من الحكومة زيادة أسعار النقل حتى لا يلجأ أصحاب السيارات إلى تحميل حمولات زائدة، وهى لا تغنيه كثيراً بل تهلك «كاوتش» السيارة وأجهزتها وتقلل من عمرها الافتراضى؛ لأنها قد تصل إلى 70 طن حمولة زائدة فى بعض الأحيان، لكن الظروف والأقساط تضطره إلى فعل ذلك وليس الجشع. ويتابع الرجل حديثه بنبرة يملؤها الحزن: مشاكلنا كبيرة، بداية من الحصول على السولار، الذى ننتظره فى محطات الوقود عشرات الساعات، وندفع 30 جنيهاً للعاملين بها عن كل 100 لتر، علماً بأن سعة خزان الوقود 600 لتر تكفى للسير 1000 كيلو فقط، ثم نعاود الوقوف طويلاً أمام المحطات، فهل حلت الحكومة هذه المشكلة وتفرغت لنا، نحن نعانى أيضاً من ارتفاع الضرائب على السيارات، لأنه مطلوب منا دفعها بأثر رجعى بقانون يوسف بطرس غالى الهارب من مصر، يدفع صاحب السيارة حوالى 7 آلاف جنيه عند تجديد رخصة السيارة كل عام، ويدفع السائق أكثر من 400 جنيه عند تجديد رخصة القيادة كل ثلاث سنوات، وعن الرشاوى على الطريق وفى المرور، فحدث ولا حرج، لم تغير الثورة شيئاً، ندفع تأمينات ورسوماً كثيرة قبل بلوغ سن المعاش وبعد خروجى لا أحصل إلا على 160 جنيهاً فقط، لذلك أضطر إلى العمل رغم سنى الكبيرة ويضيف نصار: أجرة السائق لا تزيد على 100 جنيه فى «النقلة»، وقد تكون من الإسكندرية إلى العاشر من رمضان ذهاباً وإياباً، وأجرة المساعد 40 جنيهاً فى «نقلة» قد تستمر يومين، وعند وقوع مشاكل تصل إلى 3 أيام، أما نقابة النقل البرى بالغربية لا تسأل عنا ولا تحمينا، ولم تعد توفر لنا «كاوتش» بأسعار معقولة، فثمن وحدتى الكاوتش وصل الآن 8 آلاف جنيه، وكان 4 آلاف منذ عامين فقط، فلا يوجد رقابة على الأسعار، وغيار الزيت والفلتر ثمنه فى كل مرة 1300 جنيه، من المفترض أن نقوم به كل أسبوع وبسبب ارتفاع الأسعار لا نقوم به إلا كل شهر، حتى الكاوتش الصينى الذى يبلغ ثمنه نصف ثمن الأصلى، لا يتحمل سوى 3 أشهر، بينما يتحمل الأول 6 أشهر. وينتقل نصار إلى نقطة أخرى، فيقول إن هناك تفرقة فى محاسبة سيارات النقل فى ميناءى الدخيلة ودمياط، حيث يحتسب فى دمياط سعر «الدنجل» مقدمة السيارة بسعر أعلى منه فى الإسكندرية، لوجود رجل أعمال كبير قيادى سابق بالحزب الوطنى يمتلك أسطولاً ضخماً من السيارات النقل. حسن سيد، سائق من كفر الزيات؛ يشكو بمرارة من عضو مجلس الشعب السابق عن حزب الحرية والعدالة حسنين الشورى، الذى يمتلك العديد من سيارات النقل، وحسب وصف محمد عبدالحميد نصار، أكبر السائقين المعتصمين سناً إن «الشورى» عكس مواقفه من الإضراب، فكان مؤيداً لإضراب عام 2010، أما الآن، فالإخوان يحكمون، فقال عنا «شوية عيال». ورغم اختلاف القصص والحكاوى، وتباين الأسباب والمواجع، فإن كل السائقين وأصحاب السيارات متفقون على أنه لا تراجع ولا استسلام حتى تحقيق تلك المطالب.