■ الأربعينات من القرن الماضى، كان الشيخ محمد عبدالسميع الحفناوى، الحاصل على شهادة العالمية، يشتكى له الناس من رجل فتوة، يأخذ الإتاوات من أهالى القرية الصغيرة فى صعيد مصر، يقطع الطرق ليلاً، يقضّ مضاجع النساء والأطفال. دخل الشيخ إلى غرفته، كتب خطاباً، وضعه فى زجاجة، وألقاه فى فرع النيل المار من القرية، اختفى البلطجى، لم يمت، لم يسافر، فقط اختفى فجأة، يقول أهل البلدة إنهم دهشوا من غيابه دون سابق إنذار، كأنه ذرة غبار ألقتها الرياح فى بلد آخر. ■ حين أقرأ فى سير الأنبياء أجد أن البحث عن الله كان الأساس، تذوُّق الإيمان لا يتأتى لهم إلا بالتنقيب عن الخالق، أبو الأنبياء إبراهيم يقف كل ليلة ينظر للقمر والشمس والكواكب، يفتش عن رب الكون، يسأل من أجل الفهم لا من قبيل التمرُّد، النبى محمد يتعبّد بغار فى قلب الجبل، يعتزل الناس ابتغاء الوصول، حين يمسُّ اليقين شغاف القلب ينتفض، يطالب زوجه رفيقة الحياة بأن تدثّره، وقع الإيمان ثقيل الوطأة. ■ بدأ الإيمان فى الغياب عن مجتمعنا، المظهر غلب كل التصرفات، وتشعب فى الإيمان، بات المسلم كذلك لأن أباه كذلك، صارت التعاليم الصحيحة للدين غائبة، وغلب المظهر على كل الأشياء، الاهتمام الروحانى انزوى مفسحاً المجال للذيوع المادى. تناسى المتحدثون باسم الدين أن حديث «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» هو نصف الدين، لأنّ الأمر متعلّق بالقلب، القلب هو الذى يخفق بالوصول إلى الله، القلب هو الذى يقف ليصلى لا الجسد الذى يتحرّك، القلب هو الذى يصوم رمضان ويستشعر حلاوة العبودية لله، لا الفتاوى المتناثرة هنا وهناك، والمظاهر الملقاة بين الشيخ الفلانى والجماعة العلانية التى تزعزع فى دواخلنا اليقين. ■ قادنى حظى المتأخر لمشاهدة مسلسل «الخواجة عبدالقادر»، الرجل الإنجليزى الذى جاء ليعمل بالمحاجر راغباً فى الموت ثم تعرّف على شيخ علّمه كيف يحب الله، ويحب الناس ويرغب فى الحياة، وضعه على طريق القلوب، تحوّل الخواجة للإسلام، لصحيح الإسلام: الصدق فى كل شىء، حب أبدى لله، وحب الخير للناس بلا حدود، أصبح ولياً، يتوقّع حدوث الأشياء ويدعو الله فيستجيب له. قابل الخواجة فى رحلته شيخاً نصاباً من شيوخ السلطان، يطوّع الدين حسب مصالحه، كاد أن يفتك به، لولا أن «الخواجة» كان قلبه قد عرف الطريق الذى لا ضلال فيه. حين أنهيت الثلاثين حلقة فى ثلاثة أيام، أرسلت ليحيى الفخرانى رسالة أخبرته فيها بأنّه أعاد وصالى بالحب وصلتى بالله. ■ منذ عام تقريباً كان أبى يزور القبور فى جنازة ليلية ما تأديةً لواجب، لمح قبر جده الشيخ محمد عبدالسميع بلا أقفال، خشى من أناس يخبئون المخدرات فى القبور، طلب من أحدهم الدخول للقبر فى النهار ليتسنى له التأكد، بُهت، لأنّ الهابط للاطمئنان على القبر وجد جثة الشيخ كما هى، لم يصبها العفن، بدا كأنه فى سنة من النوم. مات الشيخ محمد عبدالسميع الحفناوى منذ أكثر من خمسين عاماً. ما الذى أفقدنا صلتنا بالله؟.. أظن أنها قلة البحث عنه حولنا.