من المواقف المشينة فى تاريخ الوطنية المصرية: ذلك الموقف الذى أعلن عنه بعض المنتمين إلى التيار السلفى، برفض تقديم التهنئة إلى أقباط مصر، أشقاء المسلمين فى الوطن والمصير، بمناسبة انتخاب البابا تواضروس. هذا موقف مضاد لكل القيم التى اعتدناها ورضعناها مع حليب أمهاتنا، أعنى القيم الإنسانية، والدينية أيضاً. أى إساءة للإسلام والمسلمين أبلغ من هذا الموقف الغريب الذى يطفح لأول مرة على جسد الوطن المعتل الآن؟ فلم نعرف مثل ذلك عبر الأربعة عشر قرناً التى مضت. لنتأمل الفارق الشاسع بين ما صرح به البابا تواضروس فور انتخابه عندما قال إنه سيعمل من أجل المصريين جميعاً، وإن الكنيسة ستكون فى خدمة الدولة المصرية، أى كل المصريين بغض النظر عن دياناتهم أو انتماءاتهم، لنتأمل تصريحات السلفيين الرافضة لمجرد تقديم التهنئة، وقول بعضهم إنهم يطالبون الكنيسة بتقديم ضمانات أولاً، ثم حجج أخرى ليست إلا إمعاناً فى السفسطة، مثل قول أحدهم فى برنامج تليفزيونى إنه يطالب بضمان عدم قبول الكنيسة للمسلمين الذين يعتنقون المسيحية، فلما قال الضيف المسيحى المقابل له إنه يوافقه على حرية العقيدة وطلب موقفاً محدداً من الدكتور السلفى، قال إن دينه يمنع الردة؛ أى أنه يريد حرية الاعتقاد فى اتجاه واحد فقط.. إننى ضد منطق الجمع بين نقيضين فى قضايا شديدة الحساسية إلا إذا كانت الأطراف على درجة رفيعة من العلم، وهذا نادر الآن. يبقى أن صراحة السلفيين الجارحة أفضل من خبث أطراف أخرى فى الاتجاهات المتمسحة بالدين؛ إذ نرى بعضهم ينطقون عكس ما يبطنون، إن الصراحة مهما كانت مؤلمة أفضل؛ إذ إنها تتيح لنا الوقوف على التحولات التى تجرى لدى بعض المصريين الرافضين لوجود مصريين آخرين مختلفين فى العقيدة، تلك هى الحقيقة المرة المزعجة التى لا أرى فائدة فى إنكارها.. إن الصيغة التى قامت عليها مصر منذ دخول العرب إليها فى القرن السابع الميلادى تتقلقل الآن، قبل ثورة 1919 وبالتحديد فى نهاية العقد الأول (1910) شهدت مصر استقطاباً حاداً بين المسلمين والأقباط وصل إلى حد مقلق يهدد وحدة الكيان، غير أن ثورة 1919 جاءت ليتم تجاوز جميع عوامل الشقاق التى أججها الإنجليز طبقاً لسياستهم الاستعمارية «فرق تسد». لو أن تاريخنا تم التعريف به فقط كما جرى لما وصلنا إلى هذا الموقف السلفى الغريب على المصريين. أثناء مناقشات دستور 1923 وقف الأقباط ضد تكوين حزب قبطى.. لقد أدت ثورة 1919 إلى الصيغة التى ظلت أساساً للدولة المصرية حتى سبعينات القرن الماضى عندما وضع أنور السادات أساس الشرخ الذى راح يتسع عندما أعلن أنه «رئيس مسلم لدولة مسلمة». كان الأمل بعد ثورة يناير أن تتولد الطاقة الروحية الجبارة المنبعثة عنها عن بداية دولة حديثة تأخذ بأسباب العصر وتطبق مفهوماً قوياً للمواطنة، ولكن لا تمضى أحداث التاريخ فى نفس الاتجاه طبقاً للتجارب السابقة. ما يخفف من هذا التصرف الغريب لبعض السلفيين هو الفرحة العامة لدى جميع المصريين بكل فئاتهم يوم الأحد الماضى بعد إعلان نتيجة الانتخاب فى نهاية تجربة انتخابية ديمقراطية لم نعرف مثيلاً لها فى التنظيم والنزاهة، وفى ظل قيادة رجل حكيم قاد الكنيسة فى ظروف صعبة، أعنى الأنبا باخوميوس، فرحة المصريين العامة لإدراكهم الواعى أن إحدى المؤسسات الكبرى المكونة للوطن اجتازت لحظة صعبة، وأنها مستقرة، وأن ركنا قوياً فى الدولة المصرية بالمعنى العميق يستعصى على عناصر الهدم التى تستهدف الإعلام والأزهر، خاصة الأزهر، وكل مكونات الدولة المصرية التى تصون الوطن. لكنى شعرت بالأسى عند الإصغاء إلى كل التبريرات التى صاغها دعاة السلفيين، وأقول كمسلم إننى شعرت فى مواجهتهم بالغربة، وأن القبطى المصرى أقرب إلىّ منهم، فما يعلنونه وما يتخذونه من مواقف غريبة مثل رفض تهنئة الأقباط لا يتفق مع أى دين أو قيم إنسانية.