تضخم الاقتصاد غير الرسمى نتيجة حتمية للسياسات الفاشلة للحكومات فى التعامل مع ملف المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر. هذا ما تؤكده الدكتورة عالية المهدى، العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، فى حوارها مع «الوطن»، موضحة أن وزارة المالية تتعامل مع قطاع المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر من منطلق جباية الضرائب دون تقديم الدعم لهم، مما تسبّب فى دخول أعداد ضخمة تحت مظلة الاقتصاد غير الرسمى. وقالت «عالية » إن وضع قطاع مهم مثل المشروعات الصغيرة تحت مظلة وزارة التجارة «استمرار لسياسة العك». وطالبت الحكومة بسرعة فصله فوراً، وتحويله إلى هيئة مستقلة تابعة لرئيس الوزراء، مع تقديم الدعم له، لينجح وتخفيض الضرائب المفروضة عليها سنوياً إذا كانت ترغب فى تحجيم انتشار ظاهرة الاقتصاد السرى. وإلى نص الحوار.. ■ ما حجم الاقتصاد غير الرسمى فى مصر؟ - يتراوح بين 20 و22% من الاقتصاد، ونحو 38% من حجم التشغيل والعمالة فى مصر، وذلك طبقاً لآخر الإحصائيات والتقديرات الميدانية، التى أجريت حول الاقتصاد غير الرسمى فى مصر، أما ما يُشاع عن أنه يصل إلى نحو 60% من الاقتصاد القومى أمر غير صحيح وغير دقيق، حيث إن معظم المشروعات غير الرسمية حجم رأسمالها متواضع، كما أن حجم العمالة فيها لا يتجاوز عدة عمال، وبالتالى فإن مساهمتها، مقارنة بالاقتصاد الرسمى، ليست كبيرة، لكن علينا ألا نغفل أن نسبة الاقتصاد غير الرسمى فى مصر إلى نحو 22% من الاقتصاد القومى تعتبر مرتفعة، مقارنة بالدول الأخرى، وعلينا مواجهة ذلك وإيجاد حلول فورية. ■ ما الذى يدفع البعض إلى العمل فى منظومة الاقتصاد غير الرسمى؟ - ما يدفع البعض إلى العمل بشكل غير رسمى خارج منظومة الاقتصاد الرسمية، هو أن البيئة الاستثمارية غير محفّزة، خاصة أنه يرى أن العمل خارج المظلة الرسمية أقل تكلفة، مقارنة بما يدفعه من ضرائب ورسوم وغيره إذا عمل بشكل رسمى، إضافة إلى الإجراءات الروتينية المعقّدة لإنشاء النشاط وخلال القيام بالنشاط، كما أن الخروج من السوق فى مصر أصعب من إجراءات الدخول فيها، وهو ما يؤدى إلى العزوف عن العمل رسمياً، والدول التى سبقتنا فى ضم الاقتصاد غير الرسمى، وضعت يدها على المشكلات وحلتها، فى حين أن الحكومات المتعاقبة هنا تكيل الاتهامات للعاملين بالاقتصاد غير الرسمى، مع زيادة التعقيدات، دون إيجاد حلول للمشكلة. ■ لكن الدولة تبذل جهوداً كبيرة فى ضمه إلى منظومة الاقتصاد الرسمى، لماذا لا تسفر عن نتائج ملموسة؟ - لنتحدث بصراحة، الحكومات ووزراء المالية منذ عهد وزير المالية الأسبق، يوسف بطرس غالى، تفكيرها مركز على ملف إدماج الاقتصاد غير الرسمى بالمنظومة الرسمية للدولة حول أمر واحد، هو زيادة حصيلة الضرائب، أى أنها تعاملت مع هذا الملف بمنطق «الجباية»، وليس الحل بضمه إلى الاقتصاد القومى، وللأسف هذا المنطق هو المستمر الذى يعمل به الوزير الحالى، والذى يعكس «النظرة الضيقة» للدولة حول أهمية قطاع كبير مثل قطاع المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، والتركيز على تحصيل مزيد من الضرائب. ■ ولماذا لم تقدموا اقتراحات أو حلولاً للحكومة؟ - من قال هذا؟ فى عهد وزير المالية الأسبق يوسف بطرس غالى قدّمنا له مقترحات، كباحثين اقتصاديين لضم الاقتصاد غير الرسمى إلى المنظومة الرسمية، ومن خلال تعاملنا مع العاملين فى الاقتصاد غير الرسمى، الذين أبدوا استياءهم من الضرائب الجزافية، وعرضوا علينا، تحديد ضريبة «قطعية» بمبلغ ثابت معروف سنوياً، بدلاً من التقديرات الجزافية التى تزعج صاحب أى نشاط، وبالفعل قدّمنا اقتراحهم إلى «غالى»، ووافق وقتها على تطبيق ذلك على 23 نشاطاً، وكان أشهر هذه الأنشطة الصيادلة، وكذلك على أنشطة أخرى صغيرة كمحال البقالة وأصحاب التاكسى. ■ هل تعنين أن فترة يوسف بطرس غالى شهدت بداية حل لمشكلة الاقتصاد غير الرسمى؟ - آه طبعاً، تم جزئياً حل مشاكل بعض أصحاب الأنشطة العازفين عن الدخول تحت المظلة الرسمية، وتم ضم نحو 23 نشاطاً، لتدخل المظلة الرسمية. ■ ولماذا لم تستكمل مراحل الحل لهذا الملف؟ - لا أعرف السبب، وأعتقد أنه بدأ التحضير لضرائب أخرى، مثل الضريبة العقارية، التى لاقت هجوماً كبيراً خلال هذه الفترة، ولم يهتم باستكمال خطة ضم الاقتصاد غير الرسمى للدولة. ■ هل هناك نماذج لتجارب دول قامت بإجراءات لضم الاقتصاد غير الرسمى؟ - هناك تجارب عديدة، منها تجربة دولة كوبا، التى قامت بخطوة ذكية لجذب العاملين بالاقتصاد غير الرسمى وقيامهم بدفع الضرائب طواعية، وأعلنوا أن كل المشروعات الصغيرة ستدفع ضريبة سنوية قيمتها 200 دولار فقط، فكسبت الحكومة حوالى 7 مليارات دولار، بالإضافة إلى ضم شريحة كبيرة إلى المنظومة الرسمية، وأعتقد أن تحديد وزارة المالية مبلغاً مناسباً سنوياً كضريبة «قطعية» هو جزء كبير من الحل لجذب الشريحة العاملة بالاقتصاد غير الرسمى. ■ فى رأيك، ما أبرز الحلول لجذب الاقتصاد غير الرسمى إلى الدولة؟ - أول هذه الحلول تشجيع قطاع المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر والتعامل مع العاملين فيها بسياسة الدعم، فبالنسبة إلى المشروعات الصغيرة التى لا يتجاوز عدد عمالها 5 أفراد، لا بد أن تكون الضريبة عليهم ثابتة «قطعية»، على أن تكون ملائمة لحجم أعمالهم ورأسمالهم، ثم يتم توسيع قاعدة الشرائح الضريبية طبقاً لحجم النشاط، دون أن تمثل الضرائب عبئاً عليهم، مع إعطائهم مزايا ودعماً حكومياً. كل هذا سيكون مردوده على الدولة مباشراً فى توسيع القاعدة الضريبية، إضافة إلى زيادة الناتج الإجمالى القومى، نتيجة تشجيع ثقافة إقامة المشروعات الخاصة، ويجب أن تحدّد الحكومة سياساتها الضريبية، طبقاً لظروف المجتمع، ودعنى أقل لك إننى أجريت دراسة تقديرية على حجم الضرائب التى يمكن أن يدفعها هذا القطاع، على اعتبار أن هناك نحو 3 ملايين مشروع بهذا القطاع غير الرسمى، وعليه فإن فرض ضريبة مقطوعة بواقع 5 آلاف جنيه سنوياً سيُدر لخزانة الدولة نحو 15 مليار جنيه. وهذا المقترح جاء من خلال التواصل المباشر مع المجتمع الذى يلجأ إلى الاقتصاد غير الرسمى أو السرى. ■ لكن الحكومات المختلفة تؤكد أن سياساتها نابعة من حوارهما مع المجتمع؟ - أى مجتمع يقصدون؟! السبب الرئيسى فى فشل السياسات والقوانين والضريبة وغيرها، هو أن «المجتمع» الذى يناقش معه الوزراء سياساتهم هو مجتمع النخبة وجمعية رجال الأعمال واتحاد الصناعات والغرف التجارية، والحقيقة أن هذه المنظمات لا تعبّر عن الواقع الذى يعيشه قطاع العاملين بالاقتصاد غير الرسمى، الذى دفعهم إلى العمل فى السر، حتى إنهم عند مناقشة مشروعات الشباب يجتمع المسئولون مع جمعية شباب الأعمال، التى تشمل أبناء رجال الأعمال، ولا تمثل مشروعات الشباب، الذين يحتاجون إلى التمويل ودعم الدولة. ■ هل يعنى ذلك أنه لو غيّرت الحكومة سياستها نحو العاملين بالاقتصاد غير الرسمى، ستجذبهم إلى المنظومة الرسمية؟ - بالطبع، فالخطوة الأولى لحل مشكلة الاقتصاد غير الرسمى فى مصر هى تغيير أسلوب ونظرة الحكومة إلى أصحاب المشروعات الصغيرة، لدعم هذه الشريحة من المشروعات، لتدخل ضمن منظومة الإنتاج القومى، لأنهم يخلقون فرص عمل ويضيفون إلى الناتج القومى، لكن سعى وزارة المالية لضم هذا القطاع إلى المنظومة الرسمية يكون لجعلهم يدفعون ضرائب لزيادة الحصيلة الضريبة، وهى «سياسة فاشلة» وغير صحيحة ولا تمت إلى الفكر الاقتصادى بصلة، فى حين نجد أن بلاداً مثل تايلاند وكوريا الجنوبية والهند وغيرها تشارك المشروعات الصغيرة بما لا يقل عن 35% من صادرات هذه الدول، أما فى مصر فبسبب السياسات الخاطئة تجاه هذا القطاع، لا تزيد مشاركتهم فى الصادرات على 3% فقط، بسبب الحديث عن ضرورة ضم هذه القطاعات، على أنها عبء على الدولة، وهذا غير صحيح «ده هما اللى شايلين الدولة، ومن غيرهم كانت مصر تبقى فى مجاعة». ■ ألا ينطوى هذا التقدير بحدوث مجاعة دون القطاع غير الرسمى، على مبالغة؟ - لا أعتقد ذلك، فلو نظرنا إلى سوق العمل فى مصر ستجد أن المشروعات الصغيرة والمتوسطة هى الأكثر جذباً للعمالة، حيث يستوعب هذا القطاع سنوياً نسبة تتراوح بين 38 و42% من نسبة الشباب الجدد الراغبين فى دخول سوق العمل، مما يعادل نحو 300 - 400 ألف فرصة عمل سنوية، أى أن هذا القطاع أكبر القطاعات استيعاباً للقوى العاملة، ومع هذا فإنه للأسف ما زالت الحكومة تتعامل معهم بشكل خاطئ، مما يهدر على الدولة هذه القوة الاقتصادية الكبيرة، ودعنى أوضح أننى لا ألقى باللوم على حكومة «محلب» الحالية فقط، وإنما الحكومات المتعاقبة منذ سنوات، وقصر نظرهم عند التعامل مع الاقتصاد غير الرسمى والتركيز على ضمه من أجل زيادة حصيلة الرسوم أو الضرائب، دون التفكير فى تقديم الدعم لهم أو تشجيعهم، الأمر الذى يذكّرنا بالمثل الشعبى «المفلس بيدور فى دفاتره القديمة». ■ كيف يمكن للحكومة تصحيح سياساتها وجذب هذا القطاع؟ - أعتقد أن التعامل الصحيح مع هذا القطاع يبدأ بدعمهم وتشجيعهم، لينجحوا ويمثلوا إضافة إلى الناتج القومى على الأجل القصير والطويل، كما أنه على الدولة البدء فوراً فى تقديم حوافز تشجيعية للقطاع، مثل إعطائهم نسبة من التوريدات الحكومية مع تحفيز المشروعات التى تدخل القطاع الرسمى، بمنحها فرصة أفضل للحصول على قروض عند الدخول والتعاقد مع المشروعات الكبيرة، وأن يتم تخفيض هوامش الضرائب على أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة التى تمثل غالب نشاط الاقتصاد غير الرسمى، حتى يتمكن أصحاب هذه المنشآت من الانتقال إلى الاقتصاد الرسمى. ■ لكن الدولة اهتمت بقطاع المشروعات الصغيرة وجعلته تابعاً لوزير التجارة والصناعة؟ - هذا فى حد ذاته أكبر خطأ واستمرار لسياسة «العك» الموجودة حالياً فى الحكومة، فمنير فخرى عبدالنور لم يقدم حلولاً جديدة لمشكلات قطاع التجارة والصناعة الذى يُعتبر أساس وزارته، فكيف نحمّله بمشكلات أخرى لقطاع فى غاية الأهمية، مثل قطاع المشروعات الصغيرة، هذا أمر خاطئ، ولا بد من تصحيحه فوراً، بفصل هذا القطاع، فلا بد من فصله على وجه السرعة وتحويله إلى هيئة مستقلة تابعة مباشرة لرئيس الوزراء وليس لوزير أو جهة أخرى، ويقوم مجلس الوزراء بالدراسة والتخطيط لملف المشروعات الصغيرة مع حث الوزارات المختلفة على تقديم الدعم اللازم لإنجاحه. ■ ما رأيك فى نظريات «دى سوتو» لحل مشكلة الاقتصاد غير الرسمى؟ - نظريات «فرناندو دى سوتو» رئيس معهد الحرية والديمقراطية فى بيرو، لا تتوافق مع الواقع المصرى، ولقد عملت معه وهو واثق من أن نظرياته وأفكاره يصعب تطبيقها فى مصر، وجاء وعرض خدماته على أكثر من حكومة منذ التسعينات، دون أن يكون لها جدوى، ودعنى أقل لك بكل صراحة إن المشكلة فينا وليست فيه، فإذا لم نتعلم من تجارب كل الدول التى قضت على الاقتصاد غير الرسمى، فالعيب فينا، وأعتقد أن الحل الأفضل لدعم المشروعات الصغيرة التى تعد أكثر تسرّباً للاقتصاد غير الرسمى، هو إنشاء الدولة بنكاً مثل «جرامين» فى بنجلادش. والاتحاد الأوروبى وغيره من المنظمات والجهات العالمية المانحة، لن تتأخر عن توفير التمويل اللازمة لإنشاء مثل هذا البنك لدعم المشروعات الصغيرة والقضاء على الاقتصاد غير الرسمى فى مصر.