داخل موقف للسيارات بأحد المتاجر الشهيرة بالقاهرة ، كانت الساعة تشير إلى حوالي التاسعة مساءً ، حينما دفعت السيدة عربتها الحديدية المحملة بالاحتياجات الشهرية للبيت ، وفي اللحظة التي أدارت بها المفتاح في شنطة السيارة ، انشقت الأرض عن رجل محترم جدا - هكذا وصفته - وقد أشهر مطواته باتجاهها ، لم يكن يريد هاتفها ذا التفاحة الشهيرة ولا ساعتها السويسرية ولا خاتمها الماسي ، قال لها : لا تخافي ، فقط أريد عربة الطعام من أجل العيال وأمهم !! كان حتميا أن أتذكر هذا الرجل وسط تلك الموجة من غلاء الأسعار ، ماذا لو تاب ، وقرر ألا تطبخ زوجته سوى "الكشري" !! بقلب حي الظاهر ، كان الشيخ حسين ، هذا الملتحي الخمسيني صاحب الأراء المناهضة للدولة منذ سنوات طويلة ، يقف وسط دكانه بجلباب قصير مشاهدا "قناة الشرق" ، وعندما استعلمت منه عن أسعار مكونات الكشري ، كان العدس ب 12 جنيها ، والأرز ب 3 جنيهات ونصف ، والمكرونة أغلى من الأرز بجنيه ، مع العلم بأن تلك الأسعار لنوعيات سيصفها رواد المحلات الكبرى بأنها "شديدة الرداءة" ، وامتثالا لتوجيهات اللواء "عاطف يعقوب" رئيس جهاز حماية المستهلك بالزهد في الطماطم ، سألت عن برطمان الصلصة فوجدته ب 4 جنيهات ، وعندما علقت إحدى العجائز ب "والله حرام" ، رد الشيخ حسين بسؤال ساخر وبعينيه نظرة تشفي : ألم تصدقوا أنها ستصبح "قد الدنيا" ؟! بالقرب من محطة غمرة ، واستقصاءً لباقي ميزانية وجبة الكشري ، اتجهت نحو سوق "الشيخ قمر" ، وذلك بعيدا عن أرقام الخضروات والفواكه "الحيوية" التي لا زبون لها في تلك المناطق ، كانت الطماطم المقدسة بسعر 8 جنيهات للكيلو الواحد ، أما البصل فقد كان بجنيهين ، ولو أراد "الرجل المحترم" أن يوهم أسرته بتنوع المائدة عبر إيجاد طبق "باذنجان مُخلل" فإن الكيلو منه ب 4 جنيهات ، والفلفل ب 6 جنيهات ، والليمون ب 12 جنيها وكذلك الثوم !! ثم خرجت من هذا السوق الذي ما زالت جدرانه تحتفظ بآثار صور انتخابية للرئيس من العام الماضي وبجواره عبارة "تحيا مصر" !! في ميدان الجيش ، دخلت أحد محلات الكشري لمعرفة ما إذا كان شراء الكشري أوفر من طبخه ؟! وجدت العلبة التي قد تسد رمق إنسان جائع تُباع ب 7 جنيهات ، بحسبة بسيطة ، لو أن أسرة رباعية ستقتات غداءها طوال الشهر على "الكشري الجاهز" بكل احتمالات أمراضه ، فإنها بحاجة إلى 840 جنيها شهريا ، العارفون ب "كواليس الستر" يدركون أن هذا الرقم خيالي لأغلب المصريين !! البعض قد يردد مثل الببغاء : مصر في انتظار ثورة جياع ، هؤلاء لا يدركون أن الجياع لا يصنعون ثورات ، وإنما يطورون من غرابة مستوى الجريمة ، ويُعمقون من قاعها الذي وصل إلى "خزين البيوت" !! في النهاية ، هذه الواقعة حدثت قبل ثلاثة شهور ولم أروها حتى لا أسكب على المشهد مزيدا من السواد ، من فرط الرعب تركت السيدة "عربتها الحديدية" بكل ما فيها من طعام لهذا الرجل الذي هددها بسلاحه ، ثم فرت هي بسيارتها ، ما زالت تُصر أنه "رجل محترم" ، مظهره يؤكد دوران الزمن عليه !! هو لم يحمل أفكار الشيخ حسين في "الظاهر" ، كما أن شعارات تحيا مصر على جدران "غمرة" لم تطعم عياله !! لتبقى علامات الاستفهام ، هل ما زال مستمراً في استيلاءه على عربات الطعام ؟! هل قُبض عليه وتدهورت أحوال أسرته أكثر ، أم يأس من توفير نفقات الغداء في زمن الكشري المستحيل وانتحر ؟!