كنت فى طريقى إلى مدينة الإنتاج الإعلامى، حين صدح المذياع بالأغنية الصافية «والله إن ما اسمريت يا عنب بلدنا»، إذ كانت الإذاعة المصرية تبث لقاء قديماً مع الراحل العظيم عبدالرحمن الأبنودى، روى فيه تفاصيل كتابة تلك الأغنية وغيرها من الروائع، التى أنتجتها القريحة الإبداعية الوطنية فى حقبة الستينات من القرن الماضى. لاحظ السائق شغفى بالأغنية واهتمامى بحديث الأبنودى، لذلك، فقد حاول أن يشير إلى ذائقته الفنية بدوره، مثنياً على جمالها، ومذكّراً بأن «المطرب» المعاصر سعد الصغير غنى للعنب بدوره أغنية «جديرة بالإعجاب». حاولت أن أوضح للسائق اللطيف الفارق بين «عنب الأبنودى» و«عنب سعد الصغير»، لكننى لست متأكداً مما إذا كنت قد نجحت فى ذلك. بعد هذه الواقعة بيومين كنت ضيفاً على مؤتمر أقامته وزارة الثقافة تحت عنوان «القوة الناعمة: الفن والفكر والإبداع فى مواجهة التطرف والإرهاب»، وهو المؤتمر الذى أُعد له إعداداً جيداً، وشاركت فيه نخبة من الفنانين والمفكرين والمبدعين المصريين. لم أجد أفضل من حكاية «عنب الأبنودى وعنب سعد الصغير» كبداية لحديثى فى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، خصوصاً أن مصطلح «القوة الناعمة» بات من المصطلحات الأكثر استخداماً فى المجال العام المصرى، مما يستلزم الكثير من الحذر فى التعامل معه، وضرورة تحريره من تأويلات خاطئة علقت به. البروفيسور الشهير فى جامعة «هارفارد» جوزيف ناى هو من صكّ هذا المصطلح، وكان يقصد من خلاله تمييز القوة الشاملة للدولة إلى صنف «خشن» أو «صلب»، يتمثل فى قدرتها على الإكراه لخلق المطاوعة، فى مقابل صنف «ناعم» يتمثل فى القدرة على التأثير وتحقيق الأثر ذاته من دون إجبار. يرى «ناى» أن الولاياتالمتحدة على سبيل المثال تمتلك أكبر قوة صلبة فى التاريخ، متمثلة فى ترسانة أسلحتها الضخمة والمتطورة، وآلتها الدبلوماسية النافذة، واقتصادها الكبير، وقوانينها وسياساتها، لكنها مع ذلك تخفق أحياناً فى خلق المطاوعة فى سلوك دول أو شعوب أخرى، بينما تنجح حينما تفعل ذلك باستخدام فنها، وإبداعها، وقيمها المفترضة، وأسلوب حياتها الجذاب. هنا بيت القصيد إذن، فالفن والإبداع أهم عناصر «القوة الناعمة»، لأنه يؤثر فى العقول والقلوب، ويخلق المطاوعة والتجاوب من دون إجبار. ستنجح القوة الصلبة أحياناً فى إجبار الناس على تنفيذ القوانين، أو حتى ستدفعهم إلى الموت، لكن القوة الناعمة، المتمثلة فى التأثير العاطفى والإنسانى وآليات الإقناع، قد تدفعهم إلى الذهاب إلى الموت راضين وسعداء، وهو أمر يعز على أضخم قوة صلبة فى التاريخ أن تفعله. لكن ما علاقة ذلك بعنب الأبنودى وسعد الصغير؟ العلاقة ببساطة تكمن فى ضرورة التفريق بين الإنتاج الثقافى والإبداعى والفنى الغث والسمين. ليس كل عمل فنى قوة ناعمة، ولكن الأعمال الفنية والإبداعية التى يمكن إطلاق هذا الوصف عليها يجب أن تكون منسجمة مع النسق القيمى للأمة من جهة، وأن تكون حقيقية وعميقة ومؤثرة من جهة أخرى. إشكالية أخرى تحدث عند إثارة موضوع «القوة الناعمة»؛ فالبعض يعتقد أن قياسها يمكن أن يكون كمياً؛ بمعنى حساب عدد الأغانى المنتجة، أو أعداد المطربين، أو العاملين فى المرافق الثقافية، أو عدد قنوات التليفزيون والصحف المطبوعة.. وهكذا. يُعد ذلك خطأ كبيراً، إذ يصرف التركيز عن الطاقة التأثيرية فى المنتج الفنى والإبداعى إلى الاهتمام بالأعداد والحساب الكمى. تقييم «القوة الناعمة» يتعلق بقدرتها على التأثير ولمس الوجدان، وليس بعددها ومقدار الصخب الذى تحدثه. لا يمكن اعتبار أن العدد الكبير من الموظفين والفنيين والعاملين فى وزارات الثقافة وقطاعات الفن والإبداع رصيد متاح ل«القوة الناعمة»، إذ يتعلق الأمر فقط بما ينتجونه ويقدمونه للمجتمع والإقليم والعالم من أعمال وفنون. علينا أيضاً أن ندرك أن «القوة الناعمة» تبلى إذا لم تُجدد وتصان وتتطور، وأنها ليست امتيازاً تاريخياً لا يمكن ضياع أثره أو تجريدنا من ميزته، وأنها لا تكفى للعمل وحدها لتحقيق الأهداف الحيوية للأمة؛ إذ يجب أن تسندها «قوة صلبة» تتكامل معها، لتخلق حالة منسجمة من الأداء العام المؤثر والناجع.. وهذا الأداء بالذات هو ما عبّر عنه «ناى» نفسه بمصطح «القوة الذكية».