شكاوى واستغاثات كثيرة أطلقها سكان "بيت مدكور"، أحد البيوت الأثرية بمنطقة الدرب الأحمر، لإنقاذه من معاول الهدم التي نجحت في تخريب جزء منه، ويقف الجزء الباقي قابضاً على تاريخه الممتد إلى 600 عام ومستعصياً على الهدم، فى السابق نجحت معاول الهدم في تدمير بيت "المهندس" التاريخي ووكالة "قوصون" بالدرب الأحمر، والآن تحاول أن تمتد يدها إلى بيت "مدكور" لتسويته بالأرض، وترفع على أنقاضه عمارات خرسانية شاهقة. بقايا حجارة متناثرة على المدخل يتخللها عوارض خشبية نخرها السوس وأخرى فحمتها النار، يتبعها فناء مكشوف تتناثر في أرجائه بعض الأشجار، وتطل عليه المشربيات، وتحيط به أعمدة بزخارف منمقة متربة، وزوايا تسكنها العنكبوت، وبقايا زجاج نادر يملأ فتحات نوافذ خالية، وفي الداخل أسقف مزينة بتابلوهات باهرة رسمت بعناية، وشخشيخة أثرية سرقت مؤخراً، وبقايا أشخاص يعيشون بالمكان. هذا كل ما تبقى من "بيت مدكور" الذي يعد أحد أكبر البيوت التاريخية بشارع التبانة بالدرب الأحمر، وهو الشارع الذي كان يمر به السلاطين والأمراء منذ العصر المملوكي البحري، ويواجه البيت جامع الطنبغا المارداني الذي يعد من أهم الجوامع في مصر والعالم، ويجاوره ضريح محمد أبو النور، وزاوية جاويش باشا وتربة كتبغا، وسبيل أبو اليوسفين. يقول أحمد بدران 55 سنة أحد السكان، إنه ولد في بيت "مدكور"، ويحتفظ بالكثير من ذكريات حياته داخل هذا البيت، وسيقف بالمرصاد لأي محاولات لهدمه أو إخراجه منه، ويوضح أنه قبل ثورة يناير في 2010 جاءت لجنة ثلاثية من وزارة الآثار إلى البيت وقاموا بتسجيله كأثر معماري مميز، وأُدرج في قرار التسجيل أن أهم ما يميز البيت هو الطابع المعماري في الواجهة والمدخل. وأضاف بدران أن أصحاب البيت كانوا يسكنون في الطابقين اللذين يطلان على الشارع حيث الواجهة، وعندما انتقلوا إلى بيت آخر أرادوا أن يهدموه ويخرجوا السكان لكي يبيعوا الأرض، وتيقنوا أن ما يوقف هدم البيت وبيعه هو دخوله في التراث المعماري، وأن ما أدخله في التراث المعماري هو الواجهة والمدخل فقاموا بهدم الاثنين، كما هدموا سقف الطابق الثالث وتركوا بقايا الهدم على سقف الطابق الثاني، وقاموا بفتح المياه وتركها على البقايا الموجودة على سقف الطابق الثاني فانهار الجزء المطل على الشارع والذي يمثل حسب تقدير اللجنة الثلاثية التي أدخلته كطراز معماري مميز 20% من المنزل، وباقي المنزل 80% مازال سليماً. ويضيف أنه لذلك قامت وريثة البيت "ل.أ" باستئجار مقاول لكي يخرب بقية المنزل فقاموا بإزالة النوافذ والأبواب بالأضافة إلى شخشيخة أثرية، من الأجزاء التي هجرها السكان خوفاً من صاحبة البيت التي استصدرت قرارا بإخلاء البيت وحاولت تنفيذه بمساعدة الشرطة أكثر من مرة، وآخرها كانت منذ أسبوع. ويلفت بدران الانتباه إلى أنه تصدى لمحاولات إخلاء البيت بالقوة، وتم القبض عليه من قبل شرطة الدرب الأحمر، لمعارضته تنفيذ حكم قضائي بإخلاء البيت وهدمه، ولم يتم الإفراج عنه إلا بعد كتابته تعهدا بمسؤوليته عند وقوع أي انهيار في البيت. ويشير أن البيت صورت به عدة أفلام سينمائية قديمة منها فيلم "سونيا والمجنون"، وكانت توجد به نافورة مياه في وسط الفناء ولكنها دمرت، وأنه كان يسكن في البيت نحو 36 أسرة ونحو 8 ورش، لم يتبق من الأسر المقيمة بالبيت سوى 4 أسر فقط، لارتباطهم بالبيت وجدانياً، والباقي ترك البيت لخوفه من مواجهة الحكومة، وهو ما دفع العمارات الشاهقة المبنية على جانبي المنزل أن تأخذ الكهرباء من الكابل المغذي للبيت دون وجه حق، ولعدم وجود أحد من السكان يتصدى لهم، ويقول بدران إنه اكتشف في البيت مجموعة من السراديب التي ترجع للعصر المملوكي والتي كانت تستعمل كخزانات للمياه، وتصل إلى مجرى العيون عند القلعة. ويلتقط محمد هاشم الرجل الستيني طرف الحديث منه قائلاً "أنا فتحت عيني لقيت نفسي عايش هنا، وفوجئنا في الأيام الأخيرة أن أصحاب البيت عاوزين يخرجونا بالقوة وإحنا مالناش مأوى غير البيت ده، ولما رفضنا أصحاب البيت بدأوا يخوفونا بأساليب ملتوية زي حرق واجهة البيت وهدمها، وتخريب الأجزاء الفاضية اللي الناس سابوها". ويضيف أن مساحة البيت تبلغ نحو 2200 متر يمتد من مسجد المارداني بشارع التبانة إلى مسجد فاطمة النبوية، وأنه كان قطعة واحدة ولكن أصحاب المنزل عندما أرادوا أن يدر البيت عليهم دخلاً، قاموا بتحويل الطابق الأرضي الذي كان يستعمله أصحاب البيت من المماليك كأسطبلات، إلى غرف وأماكن منفصلة وتأجيرها للورش المختلفة. ويقول محمد نسيم 45 سنة أحد سكان البيت، إنهم تقدموا بالكثير من الشكاوى والاستغاثات لوزارة الآثار ومحافظة القاهرة لإنقاذ البيت ولكن لم يستجب أحد، ويتمنى نسيم أن تلقى دعوتهم صداها لدى المسؤولين ويهموا لإنقاذ البيت. وتقول الدكتورة أمنية عبدالبر عضو حملة انقذوا القاهرة التاريخية والمتخصصة في ترميم الآثار، إن الأهمية الأثرية والمعمارية لبيت مدكور، ترجع لكونه يتميز بطابع معماري متميز لا وجود له في بقية المنازل الأخرى، وأن واجهته كانت تتكون من طابقين لكن تم تخريبها وإشعال الحرائق بها إلى أن دمرت بالكامل، كما ترجع أهميته إلى مساحته الكبيرة في قلب القاهرة التاريخية، ولأنه يتميز بالعديد من العناصر التاريخية التي تنتمي للقرن التاسع عشر. وتشير أمنية أن البيت على الرغم من يد التخريب التي تعبث به مازال يحتفظ في الداخل بالعديد من العناصر المعمارية المتميزة التي اندثرت في غيره من البيوت الأثرية، وبيت مدكور كان مسجلا بالفعل على لائحة البيوت التراثية فى 2010، وكان أيضاً مقترحاً في نفس قرار تسجيله إخطار المجلس الأعلى للآثار لإدارجه ضمن الآثار، إلا أنه تم إخراجه من على لائحة البيوت التراثية بقرار لرئيس الوزراء رقم 960 لسنة 2011، ثم صدر قرار يقضي بهدمه حتى سطح الأرض في نفس السنة، ما أثار الكثير من التساؤلات حول توقيت صدور هذه القرارات، ولكونها تتعارض مع قرارات تسجيل البيت التي تمت في 2010. وتوضح عبدالبر أن مشكلة بيت مدكور وغيره من البيوت القديمة في منطقة الدرب الأحمر، أنها لا تخضع لقانون الآثار وغير مسجلة كأثر وتملك معظمها وزارة الأوقاف، وبالتالي لا يوجد من يحميها رغم أن بعضها مسجل كطراز معماري مميز ولا يجوز بالتالي التعامل معها بالهدم أو بالبيع، والنتيجة أن أغلبية هذه البيوت اختفت بالفعل اليوم من القاهرة التاريخية مثل بيت المهندس على الرغم من محاولات إنقاذه، حيث لم يوجد من ينقذها من الهدم وبيت مدكور مثال حي لما تتعرض له البيوت القديمة بالدرب الأحمر. وتلفت النظر أن قرار محافظ القاهرة الذي صدر بعدم صدور أي قرارات هدم أو بناء في المنطقة التاريخية بالدرب الأحمر إلا بموافقة المحافظ قد ضرب به عرض الحائط، وأن بيت مدكور يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر، حيث كان يملكه أحد أمراء المماليك، وتم بناء بعض البنايات به في القرن التاسع عشر، وذكره علي باشا مبارك في كتابه الخطط التوفيقية عند ذكره لشارع التبانة.