الأصل فى الدستور هو النص بوضوح لا لبس فيه على حقوق المواطنين، وأنواع الحرية التى يتمتعون بها، وكذا، وبالوضوح نفسه، السلطات المخولة للدولة لضمان الإدارة الرشيدة للبلاد، وأيضاً القيود المفروضة عليها والتى تمنعها من الاستبداد بالمواطن، باستخدام ذات السلطات الممنوحة لها، فالدستور كونه يحدد نصاً ما هو حق للمواطن وما هو واجب على الدولة ينبغى أن يأتى نصه صريحاً واضح الصراحة مستقيماً بادى الاستقامة ليست به مراوغة أو تخييل. وعندى أن مسودة الدستور الذى بين أيدينا تحوى العديد من المواد التى تعد نماذج للنص المراوغ، فالمادة العاشرة على سبيل المثال حين تعطى الدولة و«المجتمع» حماية الأخلاق والآداب العامة فإنها تبيح، ودون أن تذكر ذلك صراحة، للمجتمع أفراداً وجماعات حق ملاحقة الآخرين طبقاً لما يرونه انتهاكاً للأخلاق والآداب ناهيك عما فى اللفظين من عمومية وعدم تحديد قانونى مقارنة بتعبير النظام العام. وانظر معى إلى المادة 39 التى تتحدث عن حرية الاعتقاد بوضوح لا لبس فيه، لكنها تقسر حرية بناء دور العبادة على الأديان السماوية، والنص الكامل للمادة يخفى أكثر مما يصرح، فما صرحت به المادة أن الدولة ستعطى التصاريح لأصحاب الديانات السماوية لبناء دور العبادة الخاصة بهم؛ لكن الذى ضمنته المادة ذاتها دون تصريح، وهى تعنيه وتقصده، هو حظر إعطاء التصاريح لأصحاب الأديان الأخرى، وهو ما يُمكّن المشرع من تجريم كل صاحب ديانة غير سماوية إذا حاول إقامة شعائره الدينية فى أى مكان. أعلم أن البعض قد يرى القضية غير ذات معنى فى الواقع المصرى الآن، ولكنى أختلف معهم فى ذلك، فلدينا مشكلة دائمة لعقود مع وضع البهائيين فى المجتمع المصرى، وهذا تحديداً ما قصدته بالمراوغة وعدم الوضوح والصراحة، فإن كانت اللجنة ترفض ممارسة أبناء الديانات الأخرى (غير السماوية) شعائرهم فى مصر فقد كان عليها النص ذلك صراحة؛ لكن اللجنة لا تستطيع الجهر بالمنع فهو مناقض لحرية الاعتقاد ولا تستطيع الاعتراف بعدم إيمانها بما سطرته من حرية الاعتقاد ففضلت المراوغة وهو ما لا يجوز السكوت عنه فى مجتمع يكتب أول دستور له بعد ثورة كانت صرختها الأولى هى الحرية. لذلك أقول بكل أسف إن المسودة التى قرأتها قد جعلتها المراوغة أكثر محافظة من دستور 71 وأقل وضوحاً، والأسف مرده أننى أعرف أن الكثير من أعضاء اللجنة التأسيسية وهم من أهم القامات الفكرية والقانونية والوطنية فى مصر وربما فى العالم العربى، وأنا على يقين أنهم جميعاً يحاولون إنجاز أفضل دستور فى العالم كما صرح بعضهم بالفعل. إلا أن عملية إنتاج الدستور منذ أن بدأت أولى خطواتها باستفتاء التعديلات على دستور 71 وهى تعيش مناخاً استقطابياً حاداً أغلب ظنى أنه انعكس على الجميع وهو ما جعل اللجنة تحاول التوفيق بين الفئات المتصارعة بتطويع النصوص والصياغات علها تجمع الفرقاء على دستور متفق عليه فجاء نصاً مراوغاً. ولقد مضينا أنا واللجنة فى الطريق الخطأ حين طلبنا التوافق السريع بين كافة الفئات، والأجدر بنا أن نتناقش كثيراً لفترات أطول حتى نخرج بالنص الدستورى الذى نريد ونستحق، ويمكننا أن نحقق إذا عادت اللجنة إلى المسودة وخلصت النص من الغموض والمراوغة.