"جوهرة الميدان" اسمًا و"قهوة الفرانين" فعلًا، في الركن الأيمن منها يستديرون حول بعضهم، تُشرِّق الأحاديث بينهم وتُغرِّب، في انتظار أن يأتيهم الفرج من حيث لا يحتسبون، مثلما اعتادوا الجلوس عليها منذ 7 سنوات بعد تغيير ثلاثة قبلها بنفس المحيط. الرجل الخمسيني يجلس على المقهى برفقة مَن لا يملك عملًا ثابتًا في أحد الأفران الأفرنجي "قاصدين باب كريم"، منذ السابعة صباحًا، حتى يأتيه حل من اثنين بديلاهما الرجوع إلى المنزل بخفى حُنين، إما أن يتصل به "الريس عروبة" شيخ الفرانين لإخباره بحاجة أحد الأفران إليه، أو يصل أحد أصحابها إلى المقهى بنفسه للبحث عن "فرَّان أفرنجي" بالأُجرة وليس بشكل دائم. تغيّر الأفران لا يقلل من الرزق، فمن يقصد ميدان باب الشعرية سائلًا عنهم "ألف من يدله"، وسيجد خالد أحمد عامر المشهور على المقهى في الأفران ب"خالد عامر"، جالسًا بهيئة موظف الدولة الرسمي، المنتمي للمهنة منذ عام 1982، يحتسي الشاي ويدخن سجائره، متوسطًا باقي أولاد المهنة، القابعين على "جوهرة الميدان" منذ 7 سنوات بعد أن تحولت مقهاهم الأولى إلى محل مواد غذائية، والثانية والثالثة المتروكتين بعد وقوع مشكلات مع صاحبها، إما بتأخر البعض عن دفع "المشاريب"، وأمور متشابهة مع مالكي القهاوي المحيطة بالميدان، والتي بتغيرها يخبر "عروبة" أصحاب الأفران بالمقر الجديد. "دوران شبرا، شارع هارون الرشيد في مصر الجديدة، باب الشعرية".. الأماكن الثلاثة اعتادت على وجود قهوة للفرانين الأفرنجي بها، اندثرت الأولى ولم تتبقَّ غير الأخيرة، يرجع "خالد عامر" أسباب إلغائهم لبُعدهم عن وسط البلد، وكثرة المواصلات للوصول لهم، بينما منطقة باب الشعرية يسهل الوصول إليها من أي مكان مثل الدرَّاسة، البساتين، السلام، "هنا أسهل كميدان ماسك البلد كلها". يأتي الفرَّانون إلى قهوتهم من كل حدب وصوب، لا يشترط أن يكونوا من قاطني باب الشعرية، على الرغم من ذلك اعتادوا على استقبال نواب مجلس الشعب قبل الانتخابات، كما يروي "عامر" موقف جلوسه مع أيمن نور رغم أنه من ساكني منطقة "الشرابية" ولا يتبع دائرة "نور" الانتخابية، مُطلقًا الوعود بعمل نقابة لهم في إحدى شقق الميدان، جاعلًا لهم "البحر طحينة"، كما يصف عامر، حتى غادر كسابقيه دون فعل يذكر. "في صنعتنا اللي بيكبر بيصغر".. النتيجة التي استخلصها عامل الفرن الأفرنجي، بعد خبرة 32 عامًا في المهنة، التي لا تحتاج غير القادرين على المواصلة وإذا تقدمت حتى الأعمار دون كَل، ومن تمكَّن منه المرض أو شابت سنينه مبكرًا "يُركَّن" غير مأسوف عليه، دون توفير ما يكفيه ويكفي أسرته. "القهوة زي السكن بنتجمع فيها زي النادي زي أي مكان بيجمَّع أصحاب المهن".. الوصف الأدق ل"باب الرزق المفتوح" ل50 أو 60 عاملًا، الذي ارتضاه "سيد محمد" الشهير ب"عروبة"، بصفته "شيخ الفرانين" منذ 10 سنوات، بعد وجوده في المهنة منذ 40 عامًا. التليفونات لم تؤثر على دور المقهى في الوصول إلى العمال، فيرى "عروبة" أنها إحدى الوسائل ليس إلا، و"القهوة هي الأساس"، وأن الهواتف ظهرت فقط بعدما "اتزحمت" المهنة، وأصبحت الأفران بعيدة والعمال لا يسكنون بقربها. مواعيد العمالة غير الثابتة من الفرانين معروفة بالمنطقة، من الساعة السابعة صباحًا وحتى 11 ونصف ظهرًا، إما يُرزق فيهم أحد بعمل أو يعود لبيته، والفترة الثانية تبدأ من السادسة مساء وحتى الثامنة والنصف، يأتي في التوقيتين "شيخ الفرانين الأفرنجي" الذي استحدثت مهنته من حوالي 20 سنة، ويكون غالبًا أكبرهم سنًا ولا يستطيع مباشرة العمل بيده، ليرى مَن يجلس دون عمل محاولًا توفيره له. 5 جنيهات، "العمولة" الثابتة التي يتقاضاها "عروبة" من صاحب المحل، الذي يلعب له دور الوسيط بينه وبين العمال، بعد زيادتهم عقب خروج الأفران الأفرنجي من حصة التموين فتقلصت العمالة بدلا من 3 أو 4 أشخاص أصبح الاعتماد على واحد أو 2 فقط، وإذا تواجد 10 عمال في أحد الأفران لا يؤمّن غير على 2 أو 3 منهم دون الباقي، بمعدل 80% غير مؤمَّن عليهم. الشيخ الستيني لقبًا والحديث الهيئة لا يجد سببًا في أن يطالبهم أحد أصحاب القهوة بمغادرتها لأن "الفران زبون وقاعد بيدفع حق المشاريب، القهوة عامة مش محصورة علينا إحنا بس صاحب القهوة مش هيقول لحد متقعدش"، وأن أعمال تشطيب المترو والمنطقة كانت السبب في نزوحهم من بعض المقاهي المجاورة للاستقرار في "الجوهرة"، التي يستقبل فيها الفرانين من جميع المحافظات، محاولًا مساعدتهم في الحصول على رزق يومي، بعد أن أضحى متفرغًا لمهنة "شيخ الفرانين".