فى زحام الحياة القاسية، تبحث دائماً عنه، تتلمس قدراً من القربى منه لأنك بعيد بسبب الزحام والصراع والهوى، فإذا التقيته فى خشوع أو ناجيته فى سحَر أو توسلت إليه فى ضيق، فإنه ملاقيك مناديك مستجيب رغم خطاياك وهفواتك ونسيانك وعصيانك. أنت حافى القدمين مثل الأمير الذى ذهب بلا عقل أو إرادة سوى إرادة الحب أملاً فى الوصول إليه وتقصى قرباه، رغم أنك قطعة صنعها على عينه، دمك عقلك ضعفك قوتك عنفوانك مرضك، كلها منه وإليه، أنت عبد ذليل أمام القدرة، أنت وضيع أمام العزة، أنت زبد أمام بحر نعمه، أنت بخيل أمام كرمه، أنت فقير أمام غناه، أنت فراغ أمام التجلى. لست «ابن أدهم» لتقول: «ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك، ذمّ الدنى فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهّدنا فيها فآثرناها ورغبنا فى طلبها، وعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونُهيتم عن طلبها فطلبتموها، وأنذرتم الكنوز فكنزتموها، دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها وفتنتكم فأنفذتم خاضعين لأمنيتها، تتمرغون فى زهواتها وتتمتعون فى لذاتها، وتتقلبون فى شهواتها وتتلوثون بتبعاتها، تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع فى معادنها، وتبنون بالغفلة فى أماكنها، وتحصّنون بالجهل فى مساكنها، وأنتم غرقى فى بحار الدنيا، حيارى تتمتعون فى لذاتها وتتنافسون فى غمراتها، فمن جمعها ما تشبعون، ومن التنافس منها ما تملّون». لست محمداً فى غار حراء عندما اختلى بعاشقه، ولن تكون رابعة أو ابن الفارض أو الرومى فى ترانيم اللوعة، إنما أنت إنسان تلوكك الحياة بسوءاتها وسوادها، تنتظر نفحة منه أو طلة من رضاه أو مسحة من رزقه، تحاول بأنين الطلب وخمر الأنا أن تحوز الفردوس رغم التمسك بالدنيا والتحلل من الفضيلة والسعى وراء الغريزة وهوى الغرض وكراهية الحق ونسيان العدل. كن خائفاً مرعوباً مذعوراً، تنتحب بل تصرخ من أجل رحمته، صراخك طريقك للخلاص من عذاب المعصية ونار الخطيئة ولهيب البعد، إذا كان حبيبك فكيف تنال منه ما تحب وأنت تغيب عن واحة طاعته وتختار صحراء معصيته وظمأ هجرانه، إنه يبحث عنه فلا تبحث عنه، يطلبك وتتعلق بأهداب أملك ووهم دوامك فى أرضه، وتؤجل قرباه لتحرم ذاتك من نعيم عبوديته وتنتصر لشيطان نفسك الأمّارة. دعنا منها فإننا مفارقون ولا سبيل لنا إلا به، فلنمنح ذواتنا قلوباً مغسولة بماء الشغف به، ومعطرة بالوله به، لنصل إلى مرتبة العشق للحبيب رب السماوات والأرض.