لا أدرى لماذا نتعجب ونسخر من أتباع أبوبكر البغدادى الذين حطموا آثار بلاد الرافدين، وهدموا تماثيل وتراث ما بين النهرين، ونهبوا وسلبوا حضارة إنسانية عريقة شرّعت وسنّت أول قوانين مكتوبة عرفها التاريخ البشرى؟! لماذا الغضب والتنديد بما فعله الدواعش فى متحف الموصل بمعاولهم الوحشية، ومطارقهم البربرية إذا كان فى أوطاننا شيوخ وفقهاء وخطباء يطلقون فتاوى تحريم التماثيل، ويعتبرونها أصناماً وأوثاناً ما زالت تصنع لتعبد، وأن اقتناءها معصية للخالق ورجس من عمل الشيطان؟! لماذا نستنكر أفعال هؤلاء الخوارج وبيننا علماء دين يكفرون المصورين ويتوعدونهم بنار جهنم وبئس المصير؟ لماذا كل هذا وذاك إن كان ميكى ماوس والبكيمون ورجل الثلج لم يسلموا من فتاواهم وتكفيرهم!! أليس هؤلاء الخوارج أحفاد من أصدروا الفتاوى ومنحوا الرخص للسلاطين كى يحاكموا ويجلدوا ويعزلوا من عارض فكر الخليفة المأمون فى محنة خلق القرآن، وأباحوا قتل أبوالفتوح السهروردى، وصلب الحلاج بتهمة انحلال العقيدة والكفر والزندقة، وهم من أحرقوا وأغرقوا كتب ابن رشد!؟ أليس هؤلاء هم أحفاد أبى العباس بن ثوابة فصيح اللسان والعبارة، ناقص العقل والرجاحة الذى استعاذ بالله من علوم الهندسة، وممن سوّلت له نفسه أن يكون من خزنتها أو تعلمها؟ وهم من طالبوا بإبادة كتاب طه حسين وإحالته إلى النيابة وعزله من وظيفته، وحاكموا نجيب محفوظ على روايته، وهاجموا محمد حسين هيكل، وأرهبوا توفيق الحكيم ومنعوا مسرحية عبدالرحمن الشرقاوى، أليس هؤلاء من أفتى بقتل فرج فودة، وأحلوا دم نصر حامد أبوزيد وفرقوا بينه وبين زوجته؟! إذا كان تحريم وتدمير التماثيل عقيدة راسخة لدى أصحاب العقول المغيبة من جماعات التكفير وتنظيمات التطرف أتباع طالبان والقاعدة وداعش، فإنها أيضاً قناعات راسخة سواء لدى الشيوخ السلفيين المتشددين الذين يحرمون صناعة التماثيل للإنسان والحيوان وأى كائن حى له روح، أو هؤلاء الذين نصفهم بالاعتدال والوسطية!! وإذا كنا سمعنا الشيخ محمد حسان وعبدالمنعم الشحات وغيرهم يبيحون تحطيم وسرقة وبيع التماثيل والآثار، فقد أفتى أيضاً د. على جمعة عام 2006 بتحريم التماثيل فى المنازل، واستشهد بحديث يتوعد المصورين بأنهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة!! تلك الفتوى التى اعتبرها المثقفون فى حينها ارتداداً على منجزات الإمام محمد عبده وانقلاباً على عصر التنوير الذى قادته فتاوى منفتحة على العالم والعصر، فتاوى اعتبرت التماثيل والصور قيمة فنية وجمالية وتاريخية، وأن التحريم فقط كان للأصنام المستخدمة فى عبادة الأوثان! صحيح أنه تراجع عن الفتوى، وقال إن هناك من حرمها ومن أباحها، وإنه يرجح الإباحة، وصحيح أيضاً أن دار الإفتاء قد خرجت علينا ببيان إدانة بعد تحطيم داعش للآثار الآشورية بمتحف الموصل فى العراق، واعتبرت أن الآراء والأسانيد التى اعتمد عليها الدواعش فى تدمير وسرقة الآثار مضللة وواهية، ولا تستند إلى الشريعة، وأن الصحابة الكرام بعد الفتح الإسلامى شاهدوا تلك الآثار، ولم يأمروا بهدمها، لكن الصحيح أيضاً أن شيوخنا وعلماءنا الأفاضل ينتظرون دائماً حتى تقع الكارثة، وتهوى المصائب فوق رؤوسنا، ثم يخرجون علينا بالنفى والتراجع والعدول عن الفتاوى، والتشكيك فى صحة تلك الأحاديث وتكذيب من رواها!! إننا فى مجتمعنا الإسلامى -كما يقول د. حسين أحمد أمين- نطرح المشكلة وبعد أن تحل، نطرحها مرة أخرى بصيغتها العتيقة لنصل إلى حل، ثم نطرحها مرة ثالثة ورابعة، وكأنما ندور فى دائرة مغلقة لا نعرف كيف نتجاوزها، وما زال إغفال الاعتبار التاريخى ومفهوم التطور، وانعدام القدرة على استيعابهما والأخذ بهما أحد العيوب اللصيقة بالفكر الإسلامى وبنظرة المسلمين إلى دينهم، ويتوهم الغالبية ممن لا يقرأون تاريخ الإسلام أن أحكام الشريعة التى وردت فى كتب الفقه، هى كما قضى بها القرآن والسنة منذ وفاة الرسول صلوات الله عليه، وليست صرحاً شامخاً أقيم على مدى قرون بأيدى بشر مثلنا على ضوء تطور واحتياجات المجتمع، والحق أننا إن لم ندرك تلك الحقيقة، فسنظل أمداً طويلاً يستغرقنا التفكير فى لبس الجلباب وتقصيره، وضرورة الأكل والشرب باليمين، وإذا كان شرب الماء وقوفاً مخالفاً للسنة، وحكم اقتناء الصور والتماثيل، وحكم من تزوج بالجن وكذا الصلاة بجوار امرأة!! عفواً يا سادة، إن القضية أزمة فكر يستلزم التصويب، وليست انحراف خطاب يحتاج إلى تحديث، أفيقوا يرحمكم الله قبل أن يدمروا إسلامنا ويغتالوا مستقبلنا، مثلما حطموا التاريخ وقتلوا البشر!!