عندما ترسو سفينة انتخابات مجلس النواب بسلام على ضفاف البرلمان نكون قد استكملنا الهيكل المؤسسى للدولة، لنتفرغ عبره لإعادة بناء المؤسسات الرئيسية وفقاً لما تفرضه المرحلة الانتقالية، للوصول إلى إصلاح حقيقى طال انتظاره يفكك قيوداً حالت دون انطلاقنا إلى براح التنمية الفعلية، بفعل تراكمات أنتجتها التغيرات التى صحبت تعاقب الأنظمة ما بين 1952 و2011، وصاحبتها تغيرات لا تقل تضارباً فى الفضاءات الإقليمية والدولية، والعالم ينتقل من تشابكات ما بعد الثورة الصناعية وصراعات الأيديولوجيات إلى قفزات ثورة الاتصالات والمعلومات التى أربكت فى تسارعها الأنساق التقليدية المستقرة، خاصة فى عالمنا الثالث ومنطقتنا العربية. وعلى الرغم من تعدد أبواب الإصلاح يبقى باب المنظومة التشريعية فى المقدمة، فالتشريع يترجم العلاقات البينية بالمجتمع ويحدد مساره باتجاه الأهداف التى استقرت فيه، ويبنى عليها منظومة الحقوق والواجبات بدءاً من العلاقة بين الحاكم والمحكومين إلى ضبط العلاقة بين المؤسسات الأساسية الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، والتوازن بينها بغير تغول إحداها على الأخريين، وصولاً إلى تنظيم العلاقات الفردية والأسرية فى مناحى الحياة المختلفة، بطول اليوم وعلى امتداد الجغرافيا. لذلك فالعبء الملقى على كاهل البرلمان ثقيل، فهو يأتى فى لحظة دقيقة تطالبه بمهمة مراجعة تشريعات تمتد بطول قرن مضى أو يزيد، وتطالبه بمواجهة متطلبات التسارع التقنى والمعرفى بما يناسبه من تشريعات واضحة، وتطالبه بالتصدى لتشريعات تتعامل مع وطن برؤى قبلية، وتطالبه بضخ دماء شابة فى القوانين المتعلقة بالدولاب الحكومى الذى شاخ ويدير شئونه بعقلية الدفترخانة والقلم الكوبيا فى عصر التوقيع الإلكترونى ومعطيات التقنية الرقمية. ويطالبه بالانتقال الحقيقى من دولة الملل والطوائف التى اختفت كمسمى بينما ما زالت قابعة فى أروقة الفكر السائد فى كثير من أحوالنا، إلى الدولة القومية العلمانية التى لا تعادى الأديان، بل هى فى حقيقتها تضعها فى موقعها السامى كفاعل مجتمعى أساسى دون أن تسمح باشتباكات السياسة بها، والتى تنتقص منها وتلوثها، وهى أيضاً تعيد المواطن إلى موقعه الصحيح الذى تترتب فيه حقوقه وواجباته تأسيساً على انتمائه للوطن، وهو ما ذهب إليه الرئيس السيسى فى كلمته الموجزة فى زيارته الفارقة للكاتدرائية المرقسية بالعباسية عشية عيد الميلاد المجيد: «هو ما ينفعش أقول مصرى وبس؟!». وقد جاء الدستور بنصوص عديدة تحدد ملامح المسار إلى الدولة القومية، وتعطى اهتماماً واضحاً لمنظومات التعليم والصحة والاقتصاد، وتجرّم التمييز والإقصاء، وتبرز الدور التنموى لكل الأطراف فى معادلة الوطن، وتعيد ترتيب العلاقات بين المؤسسات السيادية وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة والبرلمان، وغيرها من النصوص، وكلها تفرض على البرلمان المقبل ترجمتها إلى حزم من القوانين وفقاً للقواعد التشريعية التى نسير عليها، وهو أمر ليس بالهين، ويلقى بالكرة فى ملعب الناخبين، ويصبح السؤال: هل يصلح أن يتم اختيار النواب بنفس المعايير القديمة التى سادت المشهد الانتخابى قبلاً؟ هل يظل معيار الخدمات هو الهاجس المسيطر على ذهنية الناخب، والمرشح أيضاً؟ وهل تبقى انحيازات الانتماءات العائلية والمذهبية فى مقدمة معايير الاختيار؟ وهل تبقى تحالفات المصالح بين الكتل المؤثرة فى مجتمعات الدوائر هى الفاصلة فى الوصول لمقعد النائب؟ وهل تنجح القوائم فى كسر حدة التطرف والإقصاء التى طالت الفئات التى مُنحت حصصاً محددة فيها؟ وهل يمكن كشف محاولات الالتفاف عليها ومواجهتها؟ الأحزاب الدينية السلفية والأقباط مثالاً، حتى لا نصطدم بتشكل الثلث المعطل من هذه الثغرة والتى يمكن أن تقوض كل مساعى الخروج من نفق التطرف، بل ويمكنها قيادة الارتداد عن الثورة والعودة إلى ما قبل 30 يونيو. أسئلة تنتظر إجابات.