حينما يخون الصديق صديقه فهو لا يعترف فى نفسه بالخيانة ولكنه يطلق عليها اسماً آخر، ففى مسرحية «يوليوس قيصر» لشكسبير يقع قيصر مضرجاً بدمائه من طعنات المتآمرين الذين دعوه لاجتماع فى مجلس الشيوخ، وعند كل طعنة كان يتلقاها قيصر كان وجهه جامداً خالياً من المشاعر لا يعبر عن شىء اللهم إلا مشاعر ألم طفيفة انتابته من الوخزات التى أصابت جسده، ولكن حدث ما غيَّر وجه قيصر، فقد استجدت لحظة فارقة ودهشة مذهلة رسمت خطوطها على وجهه عندما تقدم منه صديق عمره «بروتس» ليطعنه الطعنة القاتلة، حينها أصبحت الوخزات الطفيفة طعنات قاتلة، فتحشرج صوت يوليوس قيصر وهو ينظر بأسى وألم إلى صديق عمره: «يا الله أيمكن أن يحدث هذا! بروتس صديقى يطعننى بخنجره من الخلف! هذا هو الخنجر الذى أهديته له فى إحدى المناسبات»، أغمض قيصر عينيه حتى لا يرى الحقيقة وهو يقول: «حتى أنت يا بروتس!!» Even you Brutus. أراد بروتس أن يبرر لنفسه فعلته فقال: «إنى أحبك ولكننى أحب روما أكثر»، فارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه قيصر الحزين وقال: «إذن فليمت قيصر». مات قيصر دون أن تصل بقية كلمات بروتس له إذ كان يقول: «.. وسأظل أحبك»! ليس قيصر فقط هو الذى تعرض للخيانة، بل ظل البشر يكررون قصص الخيانة، ولا يزالون يكررون، فنظن أن التاريخ يُعيد نفسه، ولكننا نحن الذين نستعيده ولا يستعيد هو نفسه، فمنذ ما يقرب من عشرين قرناً قام يهوذا الإسخريوطى التلميذ المقرب للسيد المسيح بالاتفاق مع اليهود على تسليمه لهم مقابل صرة من المال، صرة مال رخيص بها ثلاثين قطعة من الفضة باع بها التلميذ معلمه، وهو الذى كان يجلس تحت قدميه ويسير خلفه ويحمل عنه صرته، إلا أن يهوذا لم يتحمل بعد ذلك خيانته فشنق نفسه. وفى العصر الحديث وفى مصر أرض الكنانة، قام بدران، الصديق المقرب من أدهم الشرقاوى، بتسليمه للإنجليز، ألم يكن بدران هو صديق عمر أدهم وابن عمه؟! ولكن الإنجليز استمالوه بالمال وجعلوه مرشداً عن تحركات أدهم، وقد أدرك أدهم والرصاص ينهال عليه أن الخائن الذى أرشد عنه هو صديقه بدران، ولعل الألم الذى ارتسم على قسمات وجه أدهم حينما عاينوا جثته كان من وقع خيانة صديقه له لا من وقع الرصاص الذى مزق جسده. ولك أن تتحدث عن شاه إيران محمد رضا بهلوى وصديق عمره حسين فردوست، فحينما بدأت الأمور فى إيران فى نهاية السبعينات تتجه نحو غضبة عارمة، بدا الشاه مع ذلك وكأنه غير مبالٍ بالبركان الذى ينشط على مقربة منه شيئاً فشيئاً، يكفيه اطمئناناً أن صديق طفولته -أو قل صديق عمره- «حسين فردوست» هو الذى يدير جهاز مخابرات الإمبراطورية «السافاما» وقد كان قبلها وكيلاً للجهاز الأمنى الخطير «السافاك». وفردوست رجل أمن من طراز رفيع، ومعه لا يمكن أن يخشى الشاه على ملكه، ولكن فى عالم السياسة لا ينبغى لحاكم أن يثق فى صديق طفولته أو صديق عمره ثقة مطلقة، بل ينبغى أن يسير معه بعيون مفتوحة، فالقلب قُلَّب، والنفس قلابة، إلا أن الشاه لم يكن عارفاً بعلوم النفس البشرية وخباياها، فظل على حاله يثق ثقة كاملة فى جهاز السافاك، وجهاز السافاما، وكان ذلك هو أكبر أخطائه جميعها، ولا شك أن آلام الشاه كانت مضنية إلى حد كبير، لم يكن ألم الجسد الذى استشرت فيه الأورام السرطانية هو الذى يقض مضجعه ويسهر لياليه، ولكن ألم الخيانة هو الذى يدوم ولا ينقطع، تهون آلام الجسد أمام آلام النفس، فآلام الجسد -مهما كانت- تخدرها المسكنات، ولكن آلام النفس لا مُسكن لها، فقد كان «فردوست» هو أول الهاربين من المركب بعد أن قام بتحويل أطنان الأموال إلى خارج البلاد لحسابه الشخصى، وحينما كتبت الأميرة أشرف بهلوى شقيقة الشاه مذكراتها قالت إن أكبر طعنة أصيب بها الشاه هى خيانة فردوست. كان الخائن الآخر الذى اغتنم الفرصة وطعن الشاه هو صديق عمره وأحد أشهر المقربين منه «بهبهايان» الذى كان يستثمر له أمواله فى أوروبا، كانت ثروة الشاه طائلة، وبهبهايان رجل تجارة حاذق، وتابع أمين للشاه، ولكن هذا الصديق المخلص انتهك صاحبه، إذ بعد الثورة قال للشاه: لقد ضاع من ثروتك سبعون مليون دولار، صرخ الشاه: ويلك، أين ذهبت؟ هل وقعت فى بلاعات المجارى!! ولم يتلقّ الشاه إجابة فقد هرب صديقه بهبهايان وسكرتيرته وهو يحمل معه الملايين والمجوهرات، وكأنه وقع على كنز «على بابا» ولكننا لم نكن نعلم أن على بابا لص، نعم كان على بابا لصاً ولكننا فرحنا بسرقاته لأنه كان يسرق من لصوص. وغير هذه القصص كثير وكثير حتى كأنك قد تظن أن فى كل عصر المئات من النسخ المكررة من قيصر والمسيح وأدهم الشرقاوى، والمئات من النسخ المكررة من بروتس ويهوذا وبدران، وفردوست وبهبهايان. فهل تصدق مقولة العرب إن المستحيلات ثلاث «الغول والعنقاء والخل الوفى»؟ رغم القصص التى رويتها لكم فإننى لا أظن أن الصديق الوفى لا وجود له، فالتاريخ والحوادث الإنسانية أثبتت أن الخل الوفى يسعى بيننا، فكيف تستقيم الحياة بلا خل وفى؟! هذا هو سابع المستحيلات، الدنيا بغير الصديق الوفى تختفى، لذلك كان فى التاريخ واحد فقط من كان خائنا للمسيح، ولكن باقى التلاميذ كانوا أوفياء، وكان لموسى عليه السلام هارون، وكان لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أبوبكر وعمر وعثمان وعلى، وفى التاريخ أيضاً تلك الصداقة العميقة التى جمعت ما بين كاتبى ألمانيا العملاقين «جوته» و«شيللر» وقد وصلت حالة التفاهم بينهما فكرياً وإنسانياً إلى حد مذهل، وكانت صداقة الشاعر الصوفى جلال الدين الرومى بالدرويش الهائم «شمس الدين التبريزى» مثالاً للحب بين الصديقين إلى درجة التفانى، إذ عندما التقى الرومى بشمس الدين الدرويش الجوّال بدا وكأن كل واحد منهما استغنى عن الدنيا بالآخر، وسنظل نروى معاً قصصاً كثيرة عن الخل الوفى، ولكننا سنظل نتألم من ذلك الصديق الذى خاننا.