ساد اعتقاد عند بعض المفكريين فى الغرب إلى مدَّة مفاده: أن سقوط الاتحاد السوفيتى ومعه أكبر منظومة فكرية وفلسفية وضعها الإنسان فى العصر الحديث، وهى المنظومة الماركسية، هو بالاستدلال البسيط نجاح للرأسمالية والديمقراطية اللّيبرالية، فى حين وجد بعض آخر أن إخفاق الماركسية إنما كشف عن أزمة حضارية فى الغرب عموماً، والفارق هنا أن أعراض هذه الأزمة كان أشد وأعمق فى المنظومة الشرقية، خاصة أن الماركسية لا تخرج عن الفضاء المعرفى للفلسفة الأوروبية، وفى هذا الشأن يقول المفكر الفرنسى كورنيليوس كاستورياديس: (إن ماركس ينتمى فى العمق إلى الفضاء المعرفى للرأسمالية ويسبح فى حوضها ويتنفس هواءها، فالفكرة الأساسية لديه كانت هى تأمين الوفرة الاقتصادية، أو تنمية قوى الإنتاج، وهذه هى فكرة الرأسمالية، إنه يختلف عن الفكرة الرأسمالية فى مسألة توزيع الثروة فحسب). وهذا يعنى أن تصدُّع الماركسية كشف من وجه آخر عن أزمة الرأسمالية نفسها، الأزمة التى يقول عنها كاستورياديس: (إن هناك أزمة أكثر عمقاً هى أزمة المجتمع والثقافة الرأسماليين، وشعار الرأسمالية يقول: اربحوا أكبر قدر ممكن لا يهم كيف، ولكن اربحوا، أنت كإنسان تساوى بقدر ما تربح من المال حتى لو بعت كل شىء، هذه هى العقلية المهيمنة فى المجتمعات الرأسمالية، وهذا شىء مقلق بالفعل، بالطبع استطاع النظام الرأسمالى أن يستمر على هذا النحو حتى الآن، ولكن لا أعتقد أن ذلك سوف يستمر أبدياً). يضاف إلى ذلك أن النظام الرأسمالى أهدر مصادر الثروات الطبيعية التى تراكمت على الكرة الأرضية طوال أربعة بلايين من السنين، خلال مائة وخمسين سنة فقط، والآن أصبحت الأرض مهددة بالتلوث من كل الجهات، كما أنه كلما أثرى العالم الرأسمالى غرقت بلدان الجنوب بالفقر، إن عدد سكان البلدان الرأسمالية المصنعة لا يتجاوز سبع سكان البشرية، ومع ذلك فهى تحتكر معظم ثروات الأرض، فهناك اختلال فى التوازن، وهذا لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. ومثل هذا الاضطراب فى الرؤية نراه عند زبجنيو بريجنسكى، المفكر السياسى الأمريكى ومستشار الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، الذى كتب كتاب: «الإخفاق الكبير، ميلاد الشيوعية وموتها»، بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، وكان متفائلاً، ثم عاد مرة أخرى وكتب كتاب «الانفلات: الاضطراب العالمى عشية القرن الواحد والعشرين»، الذى جاء رداً غير مباشر على أطروحة فرانسيس فوكوياما: «نهاية التاريخ»، التى أعلن فيها انتصار الليبرالية الرأسمالية على الفكرة الشيوعية وسائر الأيديولوجيات، حيث قال بريجنسكى: إن سقوط الأنظمة الشمولية لا يعنى بالضرورة انتصار الديمقراطية، فالانحدار الأخلاقى للغرب يحدُّ من قدرته على أداء دور قيادى على صعيد العالم، وإن تحليلات فوكوياما وزملاءه المتفائلين تقلل من أهمية القوى المعارضة الموجودة فى دول الاتحاد السوفيتى السابق والدول النامية. إن داخل النخب الفكرية والسياسية فى الغرب إدراك عميق عن أزمة الغرب وإمكانية انحداره فى المستقبل، وهناك كتابات متعددة صدرت خلال السنوات الأخيرة تؤكد الحاجة إلى تقويم حضارى جديد لعالمنا المعاصر، لتشخيص أى مرحلة تاريخية وصلت إليها البشرية، وأى مستقبل ينتظرها، والمستقبل الذى يجب أن يخطط له، وإلى متى يستمر هذا التصادم بين الحضارات، والوضع اللامتكافئ بين الأمم الفقيرة والغنية، وكيف تصل البشرية إلى مستقبل أفضل للإنسان على هذا الكوكب بغض النظر عن لونه وعرقه ولغته ودينه، ليعم السلام والأمن والخير والعدل والحرية كل البشرية. وفى ندوة عقدتها منظمة اليونيسكو سنة 1994م تحدَّث الرئيس الفرنسى الأسبق فرانسوا ميتران بكلمة جاء فيها: (إن ما نحتاج إليه هو «عقد إنمائى بين الشمال والجنوب»، ورؤية عالمية للتنمية على غرار الرؤية العالمية المشتركة للبيئة التى أفرزتها قمة ريو دى جانيرو فى البرازيل. وكان قد افتتح كلمته بقوله: كيف نقبل أن يموت ملايين الرجال والنساء والأطفال أمام عدسات المصوّرين فى دول الجنوب الفقيرة؟ فإذا كانت هذه المشاهد المروّعة تحرك مشاعرنا فإن فى ذلك بعض الخير، إلا أن ردود فعلنا تجاه هذه المآسى فى الآونة الأخيرة كانت فى أغلب الأحيان مزاجية، وإن الذى أخشاه هو: أننا فى دول الشمال الغنية تحوّلنا، فى السنوات الأخيرة، من موقف اللامبالاة النَّابع من الإحراج إلى موقف اللامبالاة من الأنانية). إن العالم المعقد الذى نعيش فيه اليوم بحاجة ملحة إلى: عقد قمة عالمية للمراجعة الاجتماعية والحضارية يركز فيها على المشكلات الاجتماعية والأخلاقية، وينتج عنها مؤسسات جديدة تهتم بتحقيق العدالة والتوازن بين الإنسانية، وتصيغ دستوراً جديداً للعالم يتبنى الثقافة بديلاً للسياسة فى معالجة الأزمات العالمية، فالثقافة تتناول الإنسان بكليته، جسداً، وروحاً، وعقلاً، ووجداناً.