بينما تقود الولاياتالمتحدةالأمريكية تحالفاً دولياً ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» فى العراق والشام «داعش»، راحت تقود تحالفاً دولياً آخر فى مجلس الأمن ضد مشروع قرار عربى لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. كان المشروع العربى الذى أحبطه «الڤيتو الأمريكى» فى آخر شعاع غارب لعام 2014 يهدف إلى التوصل إلى اتفاق سلام خلال سنة وانسحاب إسرائيل من كامل الأراضى المحتلة قبل نهاية العام 2017. ومن المفارقات أن الدولة العربية الوحيدة فى مجلس الأمن التى حملت مشروع القرار إلى المجلس هى الأردن التى تقف فى خط الدفاع الأول للتحالف الدولى ضد الإرهاب، وكأن «الڤيتو الأمريكى» مكافأة للمعتدلين العرب الذين اختاروا الوقوف معها فى خندق واحد ضد الإرهاب، بينما خذلها حلفاء تقليديون فى «الناتو» مثل تركيا، مشكوك فى صدقية موقفهم من الإرهاب، وتحوم حولهم شبهات بالتعاون مع التنظيم الإرهابى للدولة الإسلامية فى الشام والعراق، وتأمين سوق لمبيعات «داعش» من النفط السورى المسروق من حقول الرقة. والولاياتالمتحدة التى أيدت منذ ثلاثة عقود حلاً سلمياً للصراع العربى الإسرائيلى تأبى إلا أن يكون هذا الحل «أمريكياً» لا «دولياً»، وأن «تحتكر» وحدها دون شركاء دوليين حق التصرف فى الملف الفلسطينى، حتى إذا ما أقدم الفلسطينيون على حمل قضيتهم بين أيديهم ووضعها فى عهدة المجتمع الدولى ليتخذ فيها قراره العادل، قابلت الولاياتالمتحدة مشروعهم بالڤيتو. وباعتراضها على المشروع العربى بعثت برسائلها فى الاتجاه الخطأ، إلى المتطرفين العرب الذين راهنوا على الطريق الأمريكى المسدود إلى السلام العادل، وعارضوا نهج «مفاوضات بلا نهاية» التى تم التأسيس لها فى «أوسلو» قبل أكثر من عشرين عاماً، ولم تفعل شيئاً سوى أنها وفرت لإسرائيل الوقت والفرصة لضم واستيطان وتهويد أراض أكثر فى الضفة والقدس، وأقامت سوراً عنصرياً عازلاً يسجن وراءه الشعب الفلسطينى. الولاياتالمتحدة -كالأسماك- دولة بلا ذاكرة سياسية، لا تتعلم من تجاربها، ولا تستفيد من أخطائها، إن لم تكن تكررها، ولا تنظر إلى أبعد من مصالحها القريبة. أما مصالحها البعيدة ومصالح حلفائها فهى محكومة بنزعتها البرجماتية، التى لا تعترف بعداوات دائمة أو صداقات دائمة، باستثناء صداقتها لإسرائيل والدفاع عنها ظالمة أو مظلومة! ولهذا فإن كثيرين كانوا يتوقعون الڤيتو الأمريكى ضد المشروع العربى فى الأممالمتحدة استناداً إلى «تراث» أمريكى طويل متحيز لإسرائيل، لم ترتكب فيه الولاياتالمتحدة «خطيئة» الحياد بين الجانبين ولو لمرة واحدة. لا يمكن قبول الأسباب الأمريكية -وهى واهية- لتبرير «الڤيتو» على قرار بإنشاء الدولة الفلسطينية. يقال -وهو قول فج- إن التصرف الفلسطينى «المنفرد» بنقل القضية الوطنية إلى الأممالمتحدة هو الذى «استفز» الولاياتالمتحدة إلى استخدام «الڤيتو» ضد مشروع إنشاء الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال. لكن ما الذى كان على الفلسطينيين أن يفعلوه بعد أن تركوا قضيتهم «مجمدة» فى «الفريجدير» الأمريكى منذ ما يزيد على عشرين عاماً، وإلى أجل غير مسمى؟ ولماذا كشر الأمريكيون عن أنيابهم عندما وضع الفلسطينيون أجلاً لإنهاء احتلال مديد بنهاية العام 2017؟! بالمنطق الأمريكى ليس من حق الفلسطينيين أن يتصرفوا خارج «الإرادة» الأمريكية ورغماً عنها، حتى فيما يتعلق بشأن من أخص شئونهم الوطنية. ويُتهم الفلسطينيون أيضاً بأنهم رفضوا مبادرة أمريكية قدمها الرئيس أوباما فى ربيع 2014 للقبول بإطار عمل تم إعداده بواسطة الولاياتالمتحدة من أجل إقامة دولة فلسطينية على حدود إسرائيل عام 1967، لكن الذى لم يقله الأمريكيون أن المبادرة الأمريكية وضعت شرطاً إسرائيلياً لا يمكن قبوله لإقامة الدولة الفلسطينية وهو أن تعترف السلطة الفلسطينية بإسرائيل «دولة يهودية»! وخلافاً لمعاهدتى السلام اللتين أبرمتهما إسرائيل مع مصر فى عام 1979 والأردن فى عام 1994، ولاتفاق أوسلو الذى أبرمته مع منظمة التحرير الفلسطينية فى عام 1993، فقد وضعت إسرائيل مسألة الاعتراف «بيهودية الدولة» شرطاً أساسياً لبلوغ اتفاق الحل النهائى للتسوية السلمية مع الجانب الفلسطينى، الذى تجاهد الإدارة الأمريكية لتمريره على إيقاع الأحداث والتفاعلات الجارية فى الشرق الأوسط. ففى خطابات الرئيس الأمريكى باراك أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إلحاح ضاغط مثابر على «الدولة اليهودية». ففى دورتها عام 2009 يتحدث أوباما عن «دولة يهودية لإسرائيل مع توافر الأمن الحقيقى للإسرائيليين، ودولة فلسطينية قابلة للحياة ذات حدود متماسكة تنهى الاحتلال الذى بدأ عام 1967»، وفى خطابه عام 2010 اقترن «الأمن الحقيقى للدولة اليهودية بفلسطين مستقلة». ودعا فى خطابه عام 2011 إلى «الاعتراف بها وإقامة علاقات طبيعية معها». وعلى الإيقاع نفسه ربط خطاباته فى 2012 و2013 مصير المنطقة «بدولة يهودية آمنة ودولة فلسطينية مستقلة». ولا ينفصم مطلب إسرائيل «بيهودية الدولة» عن الأهداف الكامنة خلفه، فالاعتراف به يكرس مشروعية تاريخية ودينية وقانونية مزعومة لإسرائيل، ويسوغ الوجود الاستيطانى الاستعمارى فى فلسطينالمحتلة، ويصدق الرواية الصهيونية لسلب الأرض والتاريخ معاً، ما يؤدى -إن حصل- إلى إسقاط «حق العودة» للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم فى الأراضى المحتلة عام 1948 وحرمان عرب إسرائيل من حق الإقامة فى وطنهم وتهديدهم بالتهجير القسرى والتطهير العرقى، وإضفاء الشرعية على القوانين العنصرية الإسرائيلية ضدهم. هل وجدت الولاياتالمتحدة فرقاً بين «دولة يهودية» إرهابية فى فلسطين تؤيدها وتدعو إلى الاعتراف بها، و«دولة إسلامية إرهابية فى العراق والشام» تحاربها وتبنى تحالفاً دولياً ضدها؟! فرقاً يبرر الڤيتو الأمريكى على مشروع قرار بإقامة دولة فلسطينية مسالمة، ويحفظ فى الوقت نفسه ماء وجهها أمام حلفائها ضد الإرهاب من «المعتدلين» العرب الذين خذلتهم فى المواجهة مع «داعش اليهودية»!