إذا كان العرض والطلب عاملين لا يبرران الانهيار المدوى فى أسعار النفط، التى بلغت دركاً أسفل غير مسبوق، وإذا لم تكن «اليد الخفية»، التى حدثنا عنها آدم سميث قبل ما يزيد على قرنين من الزمان، هى التى تدير أسواق النفط، فمن إذن الذى يدير تلك الأسواق: يد خفية أم يد ظاهرة معلومة لبعضنا، مجهولة للبعض الآخر؟! لقد ظلت تلك الأسواق -حتى عهد قريب- نموذجاً مثالياً لأسواق «احتكار القلة» التى يتحكم فى ظلها عدد قليل من الدول، يجمعها إطار تنظيمى واحد هو «الأوبك»، فى إنتاج وتصدير الحصة الكبرى من النفط، وذلك قبل أن يدخل إلى سوق النفط منتجون كبار آخرون من روسيا وأفريقيا وبحر قزوين، أضعف دخولهم من النفوذ التقليدى للمنتجين الكبار فى «أوبك» كالسعودية. لم يعد للمنظمة نفوذها القديم، ولم تعد صاحبة القول الفصل فى تقرير الأسعار العالمية للنفط، فمعها -فى سوق النفط- شركاء آخرون، ليسوا أقل بأساً من أعضائها، وهو ما يكفى لدحض الاتهام الموجه للسعودية باعتبارها «رأس الحربة» التى قادت المنظمة، كما يزعمون، إلى حتفها بقرارات تجميد سقف الإنتاج عند 30 مليون برميل يومياً، ما فتح أبواب جهنم على الدول المنتجة داخل «الأوبك» وخارجها، على حد سواء، بعد أن هبطت الأسعار فى غضون شهور تُعد على الأصابع من 114 دولاراً للبرميل لتحوم بالكاد حول 60 دولاراً للبرميل، وتهاوت مع الأسعار إيرادات هى للبعض شريان الحياة ومصدر النمو، وهى فى طريقها إلى انهيار أكبر. تتوقع وكالة التصنيف الائتمانى «موديز» هبوط إيرادات دول الخليج بنحو 220 مليار دولار فى 2015. ليس صحيحاً أن بواعث انتقامية -كما زعمت «نيويورك بوست»- هى التى حركت السعودية لتأليب شركائها فى «أوبك» على قرار التجميد، الذى هدم المعبد على رؤوس جميع المنتجين، وهوى بأسعار النفط إلى قاع سحيق. ويدس البعض على السعودية أخباراً مؤداها أنها ستشعر بالارتياح إذا هبط سعر النفط إلى 80 دولاراً للبرميل لمدة عامين. حقاً، إن السعودية لاعب كبير فى سوق النفط، لكنها لاعب خبير بقواعد اللعبة، محكوم بشروطها، واعٍ بالحدود التى يتصرف فيها ولا يخرج عنها. أليس غريباً إذن أن ننساق وراء القول المبتذل بأن قرار «أوبك» هو ضربة استباقية سعودية لإجهاض المشروعات الأمريكية لإنتاج «النفط الصخرى»، وللمحاولات الأمريكية لتحقيق «الاستقلال الطاقوى»، عبر الانفكاك تدريجياً من ربقة الاستيراد من السعودية والخليج والانعتاق من الابتزاز العربى؟! ويقع فى الخطأ من يجهل قراءة التغييرات الأساسية فى اتجاهات تجارة النفط، وبالذات فى تحول السوق الكبرى والأهم، أى السوق الأمريكية، من اعتمادها على استيراد النفط إلى تحقيقها الاستقلال الذاتى، وفى حال اضطرارها إلى الاستيراد فمن جيران أقربين، مثل كندا والمكسيك. هذه التحولات تعنى أن دور الولاياتالمتحدة وأهميتها فى تجارة النفط العالمية سيتغيران جذرياً؛ فبدلاً من اضطرارها إلى استيراد ما لا يقل عن 50٪ من حاجتها إلى النفط، يمكن لهذه النسبة أن تنخفض، بحيث يصبح الاستيراد جزءاً بسيطاً من حاجتها. لقد تطورت صناعة النفط الخام فى الولاياتالمتحدة وأخذ تطورها أكثر من مائة عام قبل أن يصل إنتاجها إلى سقف معين، لكن سرعان ما برز النفط الصخرى كبديل للنفط التقليدى، وانصب جل الاهتمام على إمكان تحقيق الولاياتالمتحدة استقلالها الطاقوى من خلال هذا الاكتشاف، ومن ثم تحرير سياستها النفطية الشرق أوسطية من ابتزاز البلدان العربية النفطية كما تدعى! خصوصاً أن النفط العربى يمثل نحو 10٪ إلى 20٪ من إجمالى استهلاك النفط فى الولاياتالمتحدة. وفى إمكان الولاياتالمتحدة الاستغناء عن هذه الواردات إذا أرادت! وبدلاً من أن يُنحى باللائمة فى أزمة انهيار أسعار النفط على الولاياتالمتحدة، توجهت أصابع الاتهام إلى السعودية ومن خلفها شركاؤها فى منظمة الأوبك. لقد سكت هؤلاء عن دور الزيادة فى مخزون النفط الأمريكى فى هبوط الأسعار. هذا المخزون الذى يقدَّر بحوالى 362 مليون برميل، لا يفتأ -طبقاً لمعهد النفط الأمريكى- أن يشهد زيادة فى المخزون الأسبوعى قدرها 1٫5 مليون برميل، أى ما يعادل سُدس إنتاج «الأوبك». كما ضرب البعض الآخر صفحاً عن الدور الذى تلعبه تحركات العملة وارتفاع قيمة الدولار الأمريكى -الذى تُقيَّم على أساسه أسعار النفط- فى مواجهة العملات الأخرى ودور هذا العامل النقدى فى تأجيج الأزمة الراهنة. هل يمكن لهذه الأزمة أن تجدد مقترحاً توارى منذ حين -تبنته الدول النامية، لكن أحداً لم يعطه آذاناً مصغية- لإعادة تسعير النفط، ليس بالدولار، وإنما بسلة عملات تجنِّب العالم، منتجيه ومستهلكيه، الوقوع ضحية لاستبداد الدولار؟! فى تقرير لمجلة معروفة متخصصة فى أمن الطاقة journal of Energy Security، عَزَت التراجع فى أسعار النفط إلى قوة الدولار وزيادة العرض من الولاياتالمتحدةالأمريكية ونقص الطلب من الدول الصناعية الناشئة. قبل أربعين سنة، وفى سياق حرب أكتوبر المجيدة، صدمت أسعار النفط بارتفاعها الدراماتيكى المفاجئ أعمدة الاقتصاد العالمى فسقطت على رؤوس المستهلكين، وكان لسقوطها دوى تداعى طنينه لسنوات طويلة. واليوم -بعد أربعين سنة- تنهار أعمدة المعبد على رؤوس المنتجين. أما المستهلكون والمستوردون فبشراهم سينعمون -إلى أجل غير معلوم- بنفط رخيص وسلع رخيصة.