تضرب مصر الآن موجة عنيفة من تسونامى القبح لتغطى أى مظهر للجمال أو للحضارة كنا نستمتع به، وللأسف لم يعد لدينا ما نفخر به من حضارة إلا ما مضى، أما الآن فعجزنا عن إنتاج الجمال والحضارة. وأنا، مثل كثيرين من المصريين، أجد ضالتى فى أفلام مصرية قديمة أتحسّر فيها على شوارع القاهرة ومبانيها وحدائقها، أو أغانى أم كلثوم التى أستمتع فيها بالجمهور المتحضر تماماً كما أستمتع باللحن والكلمة الراقية، ولا أستغرب أننى كغيرى من المصريين لم أعد أقوى على تحمُّل الصياح والأصوات العالية فى الإعلام الذى اتجه فى بعضه من الصياح السياسى لبرامج الدجل والشعوذة. وأخرج من هذا الخيال الملىء بالجمال إلى واقع مؤلم لا يسوده إلا القبح.. فمنذ أيام دفعتنى الظروف للمرور فى القاهرة الجديدة التى كنت أرى فيها أملاً لعودة الروح الحضارية للقاهرة، فالحضارة عمارة، والعمارة فى القاهرة الجديدة كانت تبشر بأنها ستكون بؤرة حضارية جديدة، خاصة أن جهاز المدينة صارم جداً فى مخالفات البناء هناك، إلا أننى فوجئت بمواقف ميكروباص عشوائية تغزو المكان، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، عند تقاطع شارع الشويفات مع التسعين، انتشرت على الجانبين مئات من سيارات الميكروباص، وبالطبع سيحتاج الأمر لخدمات من نوع «عربيات الفول» التى أصبحت سمة فى شوارعنا لا يقوى رئيس حى أو مدير أمن أو محافظ على تحريكها من موقعها وليس رفعها باعتبارها خطراً على الصحة العامة. وطبعاً نفس الجهاز الذى يتعامل بمنتهى الحسم مع مخالفات البناء هناك لا يستطيع مواجهة تلك الظاهرة العشوائية التى سيستتبعها بالضرورة ظواهر عشوائية أخرى، ففى الصيف مثلاً ستجد «نصبة» السوبيا والعرقسوس، تماماً كما توجد عربات البطاطا فى هذه المواقف شتاء، وكلها أمام أبنية مشيدة حديثاً على طرز معمارية متميزة فى مشهد يعكس بدقة كيف يطغى القبح على الجمال. وبالطبع، سائقو الميكروباص ليسوا أغبياء، فالعشوائيات تأتى دائماً فى ثغرات التخطيط وتستغل ضعف الإدارة وفسادها. فحينما تم التخطيط لهذه المنطقة الحضارية، وكان «التسعين» شارعاً تجارياً وإدارياً يضم آلاف الموظفين، لم يتضمن التخطيط وسائل مواصلات حضارية لتوصيل هؤلاء الموظفين إلى أعمالهم، فكان الميكروباص هو الحل. وطالما دخل الميكروباص مكاناً يصبح أمراً واقعاً، خاصة أن هناك من يحمى هذه المافيا، وكثير من الميكروباصات مملوكة لأمناء شرطة، فلا مخالفات ولا عقوبات. المهم أن القبح يسود لأى سبب، والإدارة عاجزة دائماً لأى سبب أيضاً. والحكومات المتعاقبة، وبالذات فى عهد مبارك، تسببت فى هذا القبح، فبدلاً من وقف السياسات التى تؤدى للتوسع فى العشوائيات، وبدلاً من مواجهة السلوك العشوائى باعتباره خطراً على مستقبل الأمة، وبدلاً من محاولة إصلاح الأوضاع فيها لتحويلها إلى تجمعات منظمة، كانت ترسخ السلوك العشوائى، فسمحت بالتوك توك لمزيد من التعايش مع العشوائيات، ومع الوقت أصبح التوك توك يفرض نفسه على الشوارع الرئيسية، وأصبح أمراً واقعاً، فتم منح التراخيص له. ومؤخراً هناك من سمح فى إدارات المرور بترخيص السيارات السوزوكى كملاكى، وهم يرونها تتجمع فى مواقف محددة للعمل كميكروباصات صغيرة خطيرة للغاية، وإن لم تصدقونى فاذهبوا أمام باب حديقة الأزهر بشارع صلاح سالم لتشاهدوا هذا النموذج العشوائى الفاسد بوضوح. والقضيه ليست فى موقف ميكروباص، ولكنه رمز مهم للقضية الأكبر، فنحن ننحدر بسرعة مذهلة من الجمال للقبح، وهناك مسئولية ثقافية على الدولة لإنقاذ الصورة الحضارية المصرية قبل أن تختفى تماماً، فإذا كانت الحضارة عمارة، فمن المؤكد أن الثقافة سلوك، ومسئولية الثقافة لا تقع على عاتق وزارة الثقافة مثلاً، ولكنها تقع على عاتق وزارات عدة منها «التربية والتعليم» و«التعليم العالى» و«الأوقاف» علاوة على «الإعلام» و«الثقافة».. ف«التربية والتعليم» هى أهم مؤسسة ثقافية فى المجتمع، وقد فسدت منذ أصبحت هوية المدرس تطغى على الطلاب بغض النظر عن المنهج، فيجارى المدرس تلاميذه فى الألفاظ الهابطة التى تتردد فى الأفلام الهابطة بدلاً من أن يرشدهم إلى الصواب، ففقد المجتمع المعلم، وبالتالى فقد المجتمع القيم، ومن بين هذه القيم الجمال.. والإعلام جزء رئيسى من المأساة، فهناك سباق بين البرامج على التقدم بألفاظ خارجة وخادشة، لأنها -بكل أسف- تجد سوقاً رائجة فى مجتمع تسوده الآن موجة تسونامى القبح، ولا أحد يحاسب لأننا لا نفهم جيداً أن حرية الرأى والتعبير لا تعنى الانفلات والخروج عن القيم العامة للمجتمع.. وأصبح الميكروباص ثقافة قائمة بذاتها تفرض نفسها على المجتمع فى كل شىء. مصر الآن تحتاج نهضة ثقافية حضارية لمواجهة تلك الثقافة العشوائية، ثقافة الميكروباص التى لوثت كل جميل.. نحتاج فوراً لوقف تسونامى القبح الذى غطى كل جميل فى هذا البلد.. فإذا كنا الآن نهرب من الحاضر المؤلم لمشاهد من الماضى تشعرنا بأننا شعب له حضارة وقيم، فربما -لو تهاونا- يأتى يوم لا يصدق أبناؤنا وأحفادنا أن هذه المشاهد كانت فى مصر أصلاً.