تغيب الثقافة فنظنّها انقرضتْ، ثم تعود عبر مناوشات كلامية حادة، حتى نعتقد أن الغالبية مثقفون بالوراثة! وها هى «قصور الثقافة» تنفض عنها صمت السنين، وتساهم فى تصنيع الضجيج، بإعلانها إغلاق عشرات المقرات.. اضطرارياً. بداية، أرى أن الثقافة سلاح يستحق الإنفاق عليه، لدوره المهم فى معركة الوعي، تماماً مثلما تُنفق الدول مليارات الدولارات لشراء أسلحة تحمى بها سيادتها. إنها قناعة دافعتُ عنها لأكثر من ربع قرن، دون أن يمنعنى ذلك من طرح استفسار مهم: ألا يعنى عدم الإقبال على مُنتج قصور الثقافة، أن الدعم لا يذهب إلى مستحقيه؟، لماذا نُنفق على ثقافة فقدتْ جمهورها، وتنويرٍ لا يتحقق؟ التناقض السابق يؤكد حاجتنا لنقطة التقاء تجعل الخلاف خلّاقاً. أحد جوانب المشكلة المثارة، أنه من بين 594 مقراً تابعة للهيئة، سيتم إغلاق 118 بيتاً ومكتبة، تطبيقاً لقانون يُلزم المؤسسات الحكومية بإخلاء المقرات المؤجرة خلال عامين، غير أننا على حافة منعطف تاريخى فاصل، يحتاج إلى زيادة ترسانتنا من المنارات بهدف ترسيخ الوعي، فى عالم ملىء بالانقلابات الفكرية والايديولوجية، وهو خطر لا يقل عن تهديد طيور الظلام، التى استغلت الخواء الثقافى ذات زمان، فى نشر أفكار الإرهاب فى القرى والنجوع. ما يجرى جعل القلق ينتاب الكثيرين، من أن تتجاوز قرارات الغلق حدود الاضطرار، اعتماداً على تقييم مردود الثقافة وفق حسابات المكسب والخسارة، بينما يُركز المعارضون على رفض تحويل الثقافة إلى سلعة، إنه جدل قديم، بدليل أن المشكلة أعادت طرح نفسها أكثر من مرة، بصور مختلفة على مدار ثلاثين عاماً. لا أنكر أن «قصور الثقافة» عانت من قصور عبر سنوات مضت، أدى إلى تراجع تأثيرها الجماهيري، والمطلوب الآن إطلاق ثورة لتصحيح المسار، والاعتماد على المبدعين والمثقفين الحقيقيين، وتأهيل نحو 10 آلاف موظف، بعضهم لا يقرأ كتاباً للأسف، ورغم ذلك هم مسئولون عن حمل مشاعل التنوير! النقاش ممتد، لكننى أتمنى أن يقتنع قادة «الثقافة» بأن الاستثمار فى رءوس البشر لا يقل أهمية عن استثمارات رءوس الأموال.