قليلة هى الكتب التى تكون عند الكاتب الحصيف «مثل الجرح إلا أنه جرح لا ينسى»!! أنا شخصياً، وبحكم حصافة قديمة، كان من حظى أن قرأت كتاب سعد زهران «الأوردى» وعنها، وقد انقضى زمن وأنا أحس كلما تذكرت الكتاب بشىء من أسى يخزّنى فى روحى محدثاً تلك الومضة التى دائماً ما تذكّرنى بوقائع الكتاب. هذا «الأوردى» الملعون فى كل كتاب منزل، أو غير منزل. «كان سجناً صغيراً ملحقاً بليمان أبوزعبل الذى يقع فى ضاحية من ضواحى القاهرة».. كان مكاناً قبيحاً فى الصحراء، مأوى للسياسيين وأصحاب الرأى. لعمنا «سعد زهران» الطيب، تجربته، ولرفاقه من ناس ذلك الزمان الموغل فى القدم، هؤلاء الرفاق الذين مضوا بما لهم، وما عليهم. رحم الله الكاتب الروسى العظيم «دسيتوفسكى» الذى أبدع روايته العظيمة «ذكريات فى منزل الأموات» وكتبها شفاعة، وشهادة عن فظاعة السجن وما يحدث فيه من قمع للروح، وإيذاء للجسد.. كتبها عن جماعة من الأفراد العاديين فى زمن روسيا القيصرية. صعوبة الأمر على «سعد زهران» أن جماعته التى يكتب عنها من المناضلين السياسيين، هؤلاء الذين يتميزون بوعى يقظ، وإرادة تراقب ما يجرى بمعرفة ذات معنى مكتسب عن تجربة حياة تتضافر فيها المواقف، والسياسة، والثقافة. كان على «سعد زهران» لكى يكتب عن هؤلاء أن يتجرد، وهم أيضاً، من أية ادعاءات بطولية، ويبتعد عن ممارسة أى فعل سياسى، مثل إطلاق الشعارات للدعاية الحزبية حتى لا تقع الكتابة فى أسر أدب السجون والمعتقلات باستثناء بعض الأعمال الجديرة بالكتابة. «سعد زهران» يتلمس، عبر ما رأى، وما عاش، حنايا إنسانية تزدحم بالمشاعر، والشجاعة والخوف، الحب والكراهية، الإحساس بالظلم وقمع سلطة لا تعرف العدل، الأحلام والحنين، وأيضاً سطوة الابتذال والعنف الممارس من قوى شاذة، مريضة، تمارس عنفها لمجرد الاختلاف وتنفيذ الأوامر. يتناول الكاتب، من واقع يشبه الجحيم، عدداً من مواقف إنسانية تعيش فى ظروف غير إنسانية تنزف دماً طوال فترة غير محددة، فى مكان يقع فى الصحراء وتحت سطوة جماعة تحمى نظاماً استبدل ذاته بالناس. الفترة من يوم السبت 7 نوفمبر 1959 وأيام من شهر سبتمبر عام 1960. ينحدر النهار من خلف السور، وتبدو الصحراء فى تلك اللحظة لا يوجد لها أى شبه. وتستمر كيانات البشر تحمل ذلك الإحساس بالألم ومداومة الصبر، واستننهاض المقاومة. تستمر فى القراء فيما يشدك العنف حيث اللامرئى، والوجوه الشاحبة للمعتقلين، فى عزلتها، داخل كنف صحراء غير مأهولة، علامة على زمن من عنف، وسطوة عدد من الأغبياء على مصير وطن. أحب قراءة مثل تلك الكتب، وأصحابها. لهم المجد. بتجاربهم الإنسانية، وصدقهم الإبداعى الذى لا يفرق بين ما جرى لإنسان يتعذب هنا فى «الأوردى» وإنسان آخر يتعذب هناك وهنا فى جواتيمالا!!.. للتعذيب معنى واحد كما للألم معنى واحد هنا أو هناك. وجوه لناس نعرفهم، جردها سعد زهران «لتصبح مجازاً عن الألم وحوَّلها إلى كيانات إبداعية. فى جلسة يسأل معتقل: ماذا تظنون أنه أسوأ ما فى الأوردى؟ يجيبون: الجبل، فيقول آخر: طابور الرياضة، وآخر المهانة.. ومع تكرار الإجابات يكتشفون أن الجبل فى كل أحواله لا يعرف الرحمة، ولا يعرف رحمة الزوغان من شومة الشاويش، ومصيبة التكدير، وسباب الضابط وحذائه، وشيل الرمل، والصوت الخفى للصمت والحزن. يرتفع صوت محمد عباس: تعرفوا أسوأ شىء فى الأوردى؟.. استحثوه.. أيه.. أيه؟.. أجابهم: الفجر.. طلوع الصباح.. أن بشائر يوم جديد تعنى تجدد هذا الجحيم كله.. أشد اللحظات قسوة هى تبين خطوط النور.. هذه هى اللحظة التى تتكشف فيها كل التعاسة والعذاب. يلخص أحمد خضر حكاية فؤاد مرسى عندما كان يقتات من القمامة وفصول الكتاب دامية.. الذباب والفرار.. الشفخانة؛ حيث يجرجَر البشر على الرمال حتى الموت.. والعيون فى الأوردى أنواع أهمها عيون تهرب من نظرات الآخرين.. وضربة المفتاح فى الباب توقظ حلم الفرار إلى بعيد، وتنفتح على التعذيب المبرمج. يكتب سعد زهران عن زمنه وتجربته كتابة صادقة، لم يسع من خلالها لاستدرار عطف أو ثناء من أحد، تنطوى على عمق خاص يتأمل تلك المنطقة الغامضة من روح الإنسان، وتعبر عن تلك القضايا الأكثر التصاقاً بالوجود الإنسانى الباحث دائماً عن العدل والحرية.