طبيعى أن يغوى الشيطان الإنسان فى حياته، وكلما كان الإنسان مؤمناً ومتمسكاً بدينه، زادت مقاومته وقدرته على مواجهة هذا الشيطان.. وقد يسقط رجل متدين فى فخ الشيطان مرة أو مرتين، فيندم ويتوب، ولكنه يستر نفسه ولا يفضح أمره بنفسه. ولكن أن ينجح إنسان فى أن يعتلى منبر المسجد، ويخطب فى المصلين، ويؤمهم، وينصحهم بالبُعد عن الفحشاء والمنكر والبغى، ثم يخرج ليصطاد الساقطات، فيمارس معهن الرذيلة ويصور نفسه معهن فى أوضاع مخلة، فهذا شيطان تجسّد فى صورة إنسان. وهو نموذج متكرر يعكس مرضاً نفسياً انتشر فى العقود الأخيرة مع ظاهرة الاتجار بالدين التى بدأت منذ سبعينات القرن الماضى. ولا تقف الآثار الخطيرة لهذا المرض عند من تم فضحهم فى الشرائط المسرّبة، ولكن الأثر الأخطر هو تشكيك المواطنين برجال الدين وبالدين نفسه، الذى ربما يكون سبباً من أسباب زيادة نسب الإلحاد خلال السنوات الأخيرة فى مجتمع كان يوصف بأنه متدين بطبعه. وبدأ هؤلاء المتاجرون بالدين يستخدمون ألفاظاً ومصطلحات لا تأثير لها إلا هدم الدين والتشكيك فيه.. حيث يزعمون الجهاد فى سبيل الله، ويقتلون المسلمين زعماً أنهم ينشرون دين الله، وفى سبيل هذا الجهاد اخترعوا مفهوماً جديداً اسمه جهاد النكاح يبيح للمرأة أن ترفّه عن هذا المجاهد وهى لا تحل له، وهذا زنى صريح. وأصبح الأمر مثار سخرية حتى بين أوساط المسلمين على مستوى العالم. وانتشرت الفتاوى من غير أهل العلم وممن يتاجرون بالدين، وكلها تختص بالجنس، وكأن الدين فى نظرهم ليس إلا وسيلة للحديث عن الجنس، وليس فيه أى شىء آخر من مكارم الأخلاق وحسن المعاملات. والأهم أن بعض هؤلاء المتاجرين بالدين يحظون بشعبية كبيرة، وبخاصة فى الأوساط غير المتعلمة، فيتحدثون بأسلوب محبب إلى هذا القطاع الواسع، فيزيد تأثيرهم، فتكسبهم تلك الشعبية الجرأة لاستخدام ألفاظ لا يليق أن تصدر من رجل يزعم أنه يتحدث عن دين، فمنهم من يسب بألفاظ خارجة، وهناك فيديوهات كثيرة تثبت ذلك، ومنهم من زعم أن الرسول كان يستخدم السباب فى حديثه افتراءً وكذباً، ومنهم من أدين بالكذب وتضليل السلطات، حينما أجريت له عملية تجميل فى أنفه، وادعى أنه تعرّض للضرب، ومنهم من اتهم الأقباط بأنهم أنجاس، ناسياً أنهم أهل كتاب، ولا يمكن لمسلم أن يصح إسلامه إلا إذا آمن بالرسل الذين سبقوا رسول الإسلام. ومن بين هؤلاء المتاجرين بالدين من أدين بعلاقة غير شرعية مع سيدة تونسية، ومنهم من أدين بفعل فاضح فى الطريق العام، بعدما كان يؤم المصلين بعدة ساعات، ومنهم من أدين مع أبنائه بتجارة الآثار، ومنهم من أدين مع شقيقيه بتهريب السولار فى وقت أزمات الوقود، والأمثلة كثيرة.. كثيرة فى تلك الأيام التى نعيشها. وانتهى الأمر بموجات من التطرف والإرهاب باسم الدين تحت مسميات الدين منها براء. ولا أرجح أبداً فى ظل زيادة الجهل فى المجتمع المصرى والعربى أن تنحسر تلك الظاهرة التى تضر الدين أكثر مما تضر مجتمع المؤمنين بهذا الدين. وأتصور أن استمرار تلك الظاهرة عدة سنوات كفيل بزيادة نسب الكفر والإلحاد فى المجتمع، وهذا يمثل خطورةً بالغةً على منظومة القيم والأخلاق المصرية، التى تعتبر أساساً من أسس الأمن القومى. وهنا لا بد من تأكيد دور الأزهر الذى تضاءل خلال العقود الماضية، وتاهت وسطيته بين موجات التطرّف المتتالية والممولة أجنبياً، بل إن جامعته التى كانت أقدم جامعات العالم أصبحت مفرخاً للطلاب المتطرفين المنتمين إلى جامعات تستخدم الدين كوسيلة ضغط سياسى، وربما أن أعنف مظاهرات الجامعات تخرج من هذه الجامعة.. وهذا يدفعنا دفعاً إلى إعادة النظر فى جدوى التوسّع الذى بدأ فى جامعة الأزهر منذ الستينات لتدرس العلوم الإنسانية المختلفة. والأصل فى هذه الجامعة أن تنقل علوم الشريعة الإسلامية الوسطية للمصريين والعالم الإسلامى، وهى مهمة ليست بالسهلة على الإطلاق.. فجامعة الأزهر ليست فى حاجة إلى تدريس الطب أو أى علم آخر، ولكن مهمتها الأساسية الحفاظ على وسطية الدين الإسلامى فى مصر والعالم العربى والإسلامى، ولو ركزت جامعة الأزهر فى تدريس أصول الدين وتوسّعت فى نشر الفكر الوسطى، لتمكنت من تخريج أجيال من الدعاة العلماء القادرين على مواجهة الأفكار المتطرّفة التى تغزو العالم العربى والإسلامى، والتى تكاد أن تهدم الدين، والتى تستخدم لتنفيذ مخططات غربية. أما طالب الطب أو العلوم أو الهندسة فعليه أن يدرس هذه العلوم فى جامعة مدنية عادية، ويجب ألا يضيّع مجهود جامعة الأزهر فى تدريس علوم الشريعة له. فالعالم الإسلامى يحتاج إلى علماء دين أكثر من الهواة الذين اعتلوا المنابر فأساءوا للدين. وهذه ليست دعوة لتقليص دور الأزهر، بل دعوة لتوسيع دوره فى نطاق الهدف المطلوب منه، وهو الحفاظ على وسطية الدين. ويكفى أن عدداً غير قليل ممن تاجروا بالدين والمشار إليهم فى أول المقال إما تخرجوا فى تلك الكليات وإما لم يدخلوا الأزهر أصلاً، ولكنهم بالقطع ليسوا ممن درسوا أصول الدين. الأمر يحتاج قراراً جريئاً، ولا يمكن أن يظل المجتمع العربى والإسلامى ضحية لهؤلاء المتاجرين بالدين، فبئس التجارة.