يحدث أحياناً أن يتصرف فرد أو جماعة ما من الناس ضد مصالحهم الآنية والمستقبلية، قد يفعل أو يفعلون ذلك بوعى وإدراك تام للآثار المترتبة أو بلا وعى ولاإدراك، وقد يفعل أو يفعلون نتيجة ضغوط خارجة عن إرادتهم. يمكننا أن نفهم أن البعض يقدم خسائر مرحلية فى سبيل تحصيل مكاسب أكبر فى المستقبل، وهذا أحد أساليب إدارة الصراع والكسب، كثيرون يفعلون ذلك اللهم إلا الذين لا طمع لديهم أو لا غرض لهم إلا الخير ووجه الله تعالى أو كان لديهم ما هو أكثر من الطيبة. يحدث ذلك فى أعمال مشروعة وغير مشروعة.. فى الألعاب كالشطرنج وفى المعارك الحربية والصراعات السياسية وفى التجارة وفى الحياة عموماً، كما يحدث فى عمليات النصب التى تعتمد أساساً على تقديم إغراء ما للفوز بغنم أكبر وأثمن قد يصل إلى الشخص المستهدف نفسه أو حياته. قد لا يكون الطُعم المقدم فى كل الأحوال السابقة من أجل المنفعة مادياً بل ربما يكون كلاماً أو وعداً وقد يكون إظهاراً لمشاعر زائفة أو خضوعاً وامتثالاً مصطنعاً (تمسكن حتى تمكن). ما أريد إثارته هنا أن أصحاب الحكمة والعقل والتدبير لا بد أنهم يعقلون هذه الأبجدية فى إطار الصراع الحياتى والعملى مع الأفراد والجماعات، وأنهم حين يقدمون تنازلاً ما فإننا نتوقع أنهم ينتظرون مكاسب مباشرة أو غير مباشرة. كما نتوقع أن هؤلاء ذوى الحكمة أو التدبير لا يقدمون تنازلاً رئيسياً يتعلق بمصيرهم وبعملهم وبمكاسبهم المادية والمعنوية إلا لو كان لوجه الله والوطن. ومن الضرورى أن نكون واعين تماماً أن الله سبحانه وتعالى والوطن لا يطلبان من المواطن، أى مواطن، أن يتنازل عن حريته وحقه فى التعبير عن رأيه وعن مشاكله الحياتية، لأن بلده يقاتل مجموعة من المجرمين الإرهابيين، المواطن الذى يحصل أو يشعر أنه يحصل أو حتى يشعر أنه فى طريقه لأن يحصل على حريته وحقه سيكون دائماً سيفاً مسلطاً على الإرهابيين القتلة ومن يدعمونهم. لاحظنا أخيراً هذا المواطن وقد انصرف بشكل كبير جداً عن قراءة الصحف وعن القنوات الفضائية، لأنها لم تعد تقدم له ما يشبعه فى الرأى والخبر، ولم يعد يرى هذا الصراع الفكرى السياسى الطبيعى، الذى يمثل شرائح المجتمع المختلفة ويعبر عنه ويُسمِع المسئولين صوته وشكواه. إن نتيجة إعراض وانسحاب الجمهور عن الشاشات وعن الصحف هى خسائر مادية مؤكدة لانخفاض الإعلانات مثلاً، وهذا سيؤثر بدرجة ما على المعلنين أنفسهم وعلى حركة تجارتهم، إلا أن أكبر الخاسرين فى نظرى هم الصحفيون والكتاب ومعدو البرامج وكل العاملين، إذ إن أرزاقهم ستتدنى وسيُفصل بعضهم نتيجة هذه السياسة التى تسعى إلى تقليص حجم الأخبار والنقاش السياسى الحر والموضوعات المناسبة للحوار والمعارضة، وهذه السياسة لا علاقة لها بالإرهاب، فما علاقة منع برنامج محمود سعد أو منع برنامج الإبراشى وكان يتحدث عن تلاميذ ماتوا بمدارس أو ولادة سيدة فى الشارع وتم منعها من دخول المستشفى بالإرهاب؟ وللأسف ستصب سياسة النظرة القصيرة هذه فى صالح الإرهابيين بشكل غير مباشر، نتيجة تجاهل شكاوى المواطنين وحنقهم ومنع رؤية احتجاجاتهم المشروعة صوتاً وصورة. ويبدو أن ما صارت إليه الصحف والقنوات الفضائية وكذلك بيان رؤساء تحرير الصحف غريباً، فهم جميعاً يحاربون الإرهاب بشجاعة وقوة ونطالبهم بالاستمرار فى فضحه فى هذه المواجهة والحرب، ولكننا نطالبهم أيضاً بألا يكونوا ضد مصالحهم ولا ضد أنفسهم ولا ضد وطنهم ومواطنيهم فى نهاية المطاف. أى عمل لكم أو رواج أو جدوى منكم بعدما سلمتم حرياتكم؟! اللهم إلا إذا كانت هناك ضغوط أو منافع أخرى!