فى 18 أكتوبر كان رحيله، وفى 15 نوڤمبر كان ميلاده، وبينهما أربعةٌ وثمانون عاماً (1889-1973) من الفكر الرفيع والإبداع الألِق. لا أظنُّ أننى أحببتُ مفكراً عربياً قدرَ حبى له، ولا غَبَطتُ قلماً مثل قلمه الماثل أمامى كنموذج للكتابة الذكية. كانت «الأيام» من أوائل ما قرأتُ من روايات فى طفولتى. كدتُ ألمس ذلك الصغيرَ الكفيف بعينى، وأمسّد بأناملى عينيه المقروحتين فيما أمُّه تدسُّ فيهما بقايا زيت القنديل المقدّس الذى ينير صحن المسجد، علّه ينير حدقتىْ صغيرها المطفأتين. كنتُ أنام إلى جواره وألتصق بالحائط وأُحكم الغطاء فوق جسدى النحيل وجسده حين نخاف عواءَ الذئب وهزيمَ الرياح وحفيف الشجر فى ليل القرية. كان عماؤه يضخّم الخوفَ فى قلبه الصغير، وفى قلبى. يهمس طه فى أذنى: «هذه أصواتُ عفاريتَ تسعى فى الحقول لتخطف الأطفال». أصدّقه وأرتجف. نقرأ المعوذتيْن لنحرق العفريت، ثم نتلو: «يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتُنذرَ قوماً ما أُنذِر آباؤهم فهم غافلون لقد حقَّ القولُ على أكثرِهم فهم لا يؤمنون إنَّا جعلنا فى أعناقِهم أغلالاً فهى إلى الأذقان فهم مُقمحون...». حتى إذا ما وصلنا إلى: «فسبحان الذى بيدِه ملكوتُ كلِّ شىء وإليه تُرجعون»، يكون العفريتُ قد اندحر وذهب. فيطمئن قلبانا. نهدأ وننام. بكيتُ مع كل حزنٍ ألمَّ به، وغضبتُ من قسوة عَرّيف الكُتّاب الذى حفّظنا القرآن. أجمعُ أقماعَ السكّر لأرشو بها الشيخ المستبد لكيلا يضربه بالفَلَكَة حين يلْحَنُ فى الترتيل أو يخونه الحفظ. فرحتُ بكل سورة أتقنها ورددتها معه. وعند المساء، أقف خلف باب المندرة أتلصّصُ وأصفّقُ حين يدعو أبوه أصدقاءه ليستمعوا معه إلى معجزته الصغيرة: «الشيخ طه»، وقد أتمّ جزئىْ «عمّ يتساءلون» و«تبارك». رأيتُ السياجَ المعشوشب يتحسسه فى طريقه للبيت بيديه اللتين حلّتا محلّ عينيه المغدورتين. رأيتُ السياج لا بعينىّ المبصرتين، بل بعينيه العمياوين اللتين تريان أكثر مما نرى. ورغم أن مصر قدّمت للحياة رموزاً فريدة على مر عصورها، يظلُّ طه حسين عندى النموذجَ الأهمَّ والأعجب. فبرغم عاهته البصرية (أم تُرى بسببها؟) كان الأقدرَ على مشارفة تخوم الحقيقة منذ صباه. ليس صحيحاً أن باريس التى احتضنتْ شبابَه هى التى بذرت فيه نواة النور والشك فى المسلّمات الميتافيزيقية التى كثّفت -وتكثّف- حُجُب الظلام فوق مجتمعنا العربى. وليس صحيحاً أن أولى تجليّات علقه النقدىّ ظهرت عام 1926 فى كتابه المشكلة «فى الشعر الجاهلى»، لكن الشاهدَ أن تمرّده على الظلامية والنقلية كان جزءاً من بنيته الفكرية ومكوّنه الفلسفىّ. تجلّى ذلك مبكراً وهو صبىٌّ صغير فى الرابعة عشرة حين تبرّم من محاضرات الأزهريين الاتباعيين الدوجمائيين. كان ذلك فى بدايات عهده بالقاهرة التى جاءها أوائل القرن الماضى طالباً للدرس فى الأزهر، بوصفه الكفيفَ الذى لن يستطيع شيئاً إلا حفظ القرآن وتلاوته على المقابر لقاء بضعة قروش وعدة ثمرات بلح من المحسنين، على عادة من يختبرهم اللهُ بمحنة كفِّ البصر. لكنه، عوضاً عن ذلك، دخل الجامعة وكتب رسالة عن أبى العلاء ونال أول درجة دكتوراه تمنحها الجامعةُ المصرية لأحد طلابها عام 1914، ثم سافر لباريس لينال الدكتوراه الثانية عن ابن خلدون بعد خمس سنوات. ويراودنى سؤالٌ طفولىٌّ: لو أن طه حسين، وهو مَن هو فى عالم الأدب والفلسفة واللغة وافق على إجراء عملية ترقيع قرنية وصار مبصراً، ثم أمسك ورقة وقلماً ليكتب. هل كان سيكتشف أنه أُمىٌّ لا يعرف الأبجدية؟ هو الذى علمنا كيف نكتب وكيف نقرأ وكيف نفكر!