فى مقالى الفائت «الخطايا الست للإخوان»، لم أذكر كل الخطايا، كما أننى لم أتوسع فى الشرح والتفصيل والاستشهاد بالأمثلة، حيث إن المساحة لا تتيح لى ذلك.. وقد اتصل بى هاتفياً أحد الشباب النابهين ممن تركوا الجماعة وأخبرنى بأن المقال نال قدراً من الرضا بين المثقفين، كما أثار جدلاً بين الإخوان، خاصة الذين يقرأون، وقال إن الغالب الأعم منهم كان مصدوماً وغير مصدق أن يصدر هذا منى.. قلت: هذا أمر متوقع لما أعلمه من خلال خبرتى الطويلة داخل الإخوان، وأنه لا أحد يفكر برؤية وروية فيما أكتب ويكتبه غيرى، ولماذا كتب، وما المقصود به؟!.. ليس عند هؤلاء أو غيرهم ثقافة «رحم الله امرأ أهدى إلىّ عيوبى»، أو المثل القائل الذى يردده العامة: «يا بخت من بكانى وبكى على، ولا ضحكنى وضحك الناس على».. هم لا يريدون أن ينتقدهم أحد، أو يظهر أخطاءهم إنسان، حتى إن كان يستهدف مصلحتهم، وهذه مشكلة.. والحقيقة أنه ما لم تحدث مراجعات اليوم، فى الفكر والفهم والممارسة، فلن تحدث أبداً.. والذى أتصوره أنهم سيؤجلون أو يرحلون كل شىء -كما هى العادة- إلى ما بعد زوال «الغمة»، إن زالت.. فإذا صفت لهم الدنيا يوماً ما، نسوا أو تناسوا -كما هى العادة أيضاً- أن ثمة مراجعات كانت مطلوبة، وهكذا.. اليوم أتناول خطايا أخرى ربما لا تقل خطورة عما سبق ذكره.. وهذه لا تخص الفشل الذى تحقق على أيديهم، بقدر ما تخص انهيار الجماعة من الداخل. إن مبدأ «لا يصح إلا الصحيح» معروف لدينا جميعاً، وكثيراً ما نردده، لكن -للأسف- بعد فوات الأوان، وبعد أن تقع الكارثة وتحدث المصيبة.. هو يسرى على الفرد والجماعة، والمؤسسة والدولة.. وفى تصورى، الصحيح هو ما كان متسقاً بإطلاق مع منظومة القيم الأخلاقية والإيمانية والإنسانية الرفيعة، وما كان متسقاً أيضاً مع الفِطرة النقية والعقول السوية.. قد يحدث أحياناً أن يتجاوز فرد أو جماعة هذه المنظومة القيمية وتحقق نجاحاً ما فى غفلة من الآخرين.. لكنها لن تستمر فى هذا النجاح طويلاً، وسوف يتم اكتشاف أمرها وفضحها على الملأ، وساعتئذ تكون الخسارة فادحة.. وحتى لو لم يقع ذلك فلا بد أن يحدث التصدع والانهيار من الداخل، فلم نر يوماً قصراً مشيداً على رمال أو بنى أساسه من مواد مغشوشة، استمر طويلاً. بعد أن صرت نائباً أول للمرشد العام للإخوان فى يناير 2004، أتيح لى أن أرى ما لم أكن أراه من قبل.. لاحظت منذ البداية وجود شروخ متعددة فى المنظومة القيمية، ومن القمة إلى القاع.. الكذب، صحيح أنه ليس سمة عامة، لكنه موجود.. المجاملة على حساب الحقيقة والواقع، سلوك طبيعى.. المداهنة والتملق من الصغار للكبار، ومن أصحاب المسئوليات المتواضعة لأصحاب المسئوليات العالية، نهج عادى لا بأس به.. معاقبة الصغار بقسوة وشدة على شىء تافه ارتكبوه، وعفو كامل وتغافل تام عن كبار ارتكبوا جرائم كبرى، هو المتبع دائماً.. صدق فيهم قول النبى صلى الله عليه وسلم: «إنما أهلك الأمم من قبلكم، كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد».. مع الوقت، بدأت هذه الشروخ تزداد اتساعاً وعمقاً.. حاولت قدر جهدى لفت الأنظار إليها والتحذير من عواقبها، فلم أجد إلا استهانة وعدم اهتمام وتقليلاً من شأنها.. كنت أسمع تعليقات غاية فى الغرابة، مما يدل على عدم وجود استعداد حقيقى للإصلاح.. أمام هذا الاستخفاف، كنت أرى بناء الجماعة يتهاوى وينهار من الداخل، لكن لم يكن أحد -إلا من رحم ربى- يصدق أو يدرك أو يعى مدى خطورة الأمر.. كانت الثقة الزائدة فى الجماعة وتاريخها كغمامة سوداء أو سحابة كثيفة تحجب ما وراءها تماماً. فى يوم من الأيام، جاءنى رئيس مكتب إدارى وفى الوقت ذاته عضو مجلس شورى عام بالجماعة (بحكم اللائحة) يشكو لى من عضو مكتب إرشاد.. قال إن فلاناً هذا أذلنى 19 عاماً.. قلت (متعجباً ومندهشاً ومستنكراً): وما الذى جعلك تصبر على هذا الذل، فضلاً عن أن تقبله أصلاً؟! للأسف نحن الذين نصنع الاستبداد بأنفسنا ونمهد له السبيل.. ثم أردفت قائلاً: إن الالتزام بتعاليم الإسلام وقيمه يزيدنا إحساساً بالعزة والحرية والكرامة.. وإذا كانت الجماعة سوف تكون مصدراً للذل والإهانة، وميداناً لممارسة الاستبداد، فبئست هذه الجماعة، ولا كانت.. بعد خروجى من الجماعة فى يوليو 2011، فوجئت برئيس المكتب الإدارى هذا، صار عضواً بمكتب الإرشاد.. وقد علمت أن من رشحه لهذه العضوية، عضو مكتب الإرشاد الذى شكاه إلىّ يوماً ما، والذى أصبحت له بعد ذلك وضعية خاصة داخل الجماعة، ولله فى خلقه شئون! إن ثورة 25 يناير، والفترة التى أعقبتها، أبرزت كماً هائلاً من الشروخ داخل الجماعة.. لم يحاول أحد معالجتها، رغم تحذيرنا المستمر، بل أضيفت إليها شروخ جديدة، لا تقل شراسة وضراوة، خاصة بعد أن وصل الإخوان إلى سدة الحكم.. إنه ليس أخطر على الفرد والجماعة مما أصابها من القواصم فى هذا العام البائس؛ كبر وغطرسة وغرور وزهو وتعالٍ.. سوس ينخر فى عظام الجماعة من الداخل.. شخصيات عهدناها هينة لينة سمحة مهذبة، إذا بها بين عشية وضحاها أصبحت على النقيض تماماً.. وقد لاحظ ذلك كتاب وصحفيون ومحللون من مصر وخارجها، وكان السؤال دائماً هو: ما الذى جرى للإخوان؟ وكان جوابى دائماً هو: هذه هى بداية النهاية!