خلصنا فى المقالة السابقة إلى أن «مواثيق الشرف» وإن كانت عنصراً مهماً من عناصر ضبط الأداء فى صناعة الإعلام، إلا أنها لا تكفى وحدها للحد من انفلاتات تلك الصناعة. وأوضحنا أن المجتمعات الأكثر تنظيماً واهتماماً بحق الجمهور فى تلقى مواد صحفية وإعلامية أكثر انسجاماً مع المعايير الدولية، تطور آليات «تنظيم ذاتى» لصناعة الإعلام على نحو يضمن نجاعة الأداء ويحد من آثار الممارسات الضارة على المتلقين والمصلحة العامة. إن آليات التنظيم الذاتى لصناعة الإعلام تتضمن، وفق التجارب المتطورة والناضجة فى دول العالم الغربى، عدداً من العناصر المهمة؛ أولها يتعلق بما يمكن تسميته ب«الفريضة الغائبة» فى هذه الصناعة.. أى «سياسات التوظيف» (Job Policy)، وهى مجموعة من المعايير التى تنظم عمليات التوظيف فى وسائل الإعلام. إن سياسات التوظيف المعيارية أمر حيوى وضرورى ضمن عناصر التنظيم الذاتى لصناعة الإعلام، لأنها لا تضمن فقط العدالة والشفافية فى منح الوظائف، ولا تحد فقط من التوظيف العشوائى واختيار العناصر غير المناسبة، لكنها أيضاً تزيد النزعة التنافسية لدى العاملين فى القطاع، كما أنها تسفر عادة عن اختيار أفضل العناصر المتقدمة، بشكل ينعكس على جودة العمل، ويحسّن الأداء إلى أقصى درجة ممكنة. العنصر الثانى فى التنظيم الذاتى لصناعة الإعلام يتعلق بالتدريب المستمر. إن معظم وسائل الإعلام الكبرى فى العالم تنشئ وحدات تدريب مستديمة داخلها، بحيث تضمن إخضاع كل العناصر العاملة بالوسيلة لعمليات تدريب مستمرة بهدف رفع المستوى وتعزيز المهارات والتعرّف إلى الجديد فى الصناعة. العنصر الثالث يتعلق ب«الأدلة التحريرية»، وهى مجموعة من المعايير والأخلاقيات والقيم التى تلتزم المؤسسة بتبنيها فى إنتاجها الإعلامى بشكل يحقق لها التنافسية والالتزام المهنى والقيمى. أما العنصر الرابع فليس سوى «الإمبودسمان»؛ وهو عبارة عن صحفى أو إعلامى قدير يمتلك مكانة مهنية وأخلاقية غير قابلة للطعن، كما يحظى بخبرات إعلامية واسعة وعميقة، ويتقن المهارات الصحفية والإعلامية، ويعمل ك«أمين شكاوى ومظالم» لدى القراء والجمهور. يقوم «الإمبودسمان» بمتابعة أداء المؤسسة التى يعمل بها، ويعين الأخطاء المهنية والأخلاقية التى تقع فيها الوسيلة أو العاملون فيها من الصحفيين والإعلاميين، ويصارح الجمهور بها عبر مساحة مخصّصة له، كما أنه يتلقى الشكاوى من الجمهور فى حق أنماط الأداء المثيرة للجدل، ويقوم بتحقيقها، ويعتذر أحياناً عن الأخطاء التى ترتكبها الصحيفة علناً، ويطلب من مرتكبيها التعهد بعدم تكرارها. العنصر الخامس من عناصر التنظيم الذاتى لصناعة الإعلام هو النقابات الإعلامية، التى تقوم بدورها بإنشاء آليات تأديب للمتجاوزين من أعضائها، وهى الآليات التى يمكن من خلالها توقيع اللوم أو الغرامات على المخطئين من الصحفيين أو إجبارهم على الاعتذار العلنى عن أخطائهم. أما العنصر السادس فيتعلق بمنظمات المجتمع المدنى العاملة فى مجال حرية الرأى والتعبير أو حماية حقوق الجمهور، وهى منظمات يمكنها أيضاً أن تخضع الأداء الإعلامى للتقييم، ويمكنها كذلك أن تحد من تجاوزاته عبر إصدار التقارير التى تشير إلى الأخطاء والانتهاكات، وإبراز الممارسات الجيدة ومكافأتها معنوياً. أما آخر عناصر التنظيم الذاتى فهو «مجالس الصحافة»، وهى هيئات مستقلة غير هادفة للربح، تقوم الوسائل الإعلامية والصحفية بتشكيلها من عناصر تتميز بامتلاك الخبرة والإلمام والسمعة الحسنة، وتفوّضها بتحقيق شكاوى الجمهور من الأداء الصحفى، وتمنحها صلاحيات توقيع عقوبات مالية أو معنوية. يضيق مفهوم «التنظيم الذاتى» ويتسع من مجتمع إلى آخر، لكنه على أى حال لا يتسع ليشمل القواعد المؤسسية أو التنظيم الإدارى أو المحاكم، ولا يضيق ليقتصر على مواثيق الشرف. إن التعويل على مواثيق الشرف فقط لضبط الأداء الإعلامى هو خطأ كبير، كما أن ترك هذا الأداء بلا ضابط أو رابط خطأ كذلك، والحل يكمن فى تطوير منظومات «التنظيم الذاتى» التى تتكون من عناصر متعددة ومتشابكة، لكنها بالتأكيد قادرة على الحد من تجاوزات الإعلام ورفع السيوف المسلطة على رقاب العاملين فيه.