بدأت أسفارى منذ تكوُّنى فى رحم أمى رحمها الله. جرى ذلك من خلال رحلتها الصيفية إلى جهينة. إما بغرض زيارة الأهل أو لتلد بين أسرتها حتى تلقى الرعاية والمساعدة، هى التى عاشت مغتربة فى القاهرة. أقدم صورة تحتفظ بها ذاكرتى، متابعة بصرى لها أثناء عملها فى البيت وهى تغنى. «على بلد المحبوب ودّينى.. زاد بعدى والوجد كاوينى».. هذه الأغنية التى تشدو بها أم كلثوم هى عنوان الغربة عندى ومفجرة الحنين، سواء بالنسبة لى أو من يرتبطون بى. قبل أن أولد وأنا فى ترحال دائم، أنواع من الأسفار، بعضها خارجى فى المكان والكثير منها إلى الداخل، إما لاستعادة ما عرفته أو لتفحّص ما مررت به، أو لاستخلاص العبر. بدأ ترحالى داخل مصر، وأزعم أن كثيراً من المصريين لا يعرفون بلادهم، إما لقصور مناهج التعليم التى تخلت عن الرحلة باعتبارها مصدراً للمعرفة، وكما ذكرت فقد كانت أساسية للمعرفة. وعندما تخرجت عملت مصمماً للسجاد فى مؤسسة التعاون الإنتاجى، وقد اختفت الآن مع المؤسسات الكبرى التى تأسست فى الزمن الناصرى لتكون عناصر فى مشروع النهضة، مشروع النهضة للشعب المصرى والذى أُجهض مع هزيمة يونيو التى نعيش أصداءها وتداعياتها بعيدة المدى الآن بعد تمكّن جماعة الإخوان من السيطرة على البلاد والوطن. كنت أمضى الساعات الطوال فى تصميم السجاد الشرقى طبقاً لأسس طرزه المعروفة، فالسجاد من طراز كرمان أو بخارى أو شيراز أو هيرات معروف، يمكن تحديد طرازه للعارفين بالنظر، لكن عند التصميم تكون لمسة شخصية تعكس ذاتية الفنان، ومن النادر أن نجد توقيعاً يحفظ لنا اسم الفنان المسلم، الذى أبدع فى صمت وانسحب إلى المجهول، أما اسم السلطان أو الأمير الذى أمر بنسخ هذا المصحف، أو بناء ذاك المسجد، فيطالعنا اسمه واضحاً جلياً، وهذا موضوع قد أخصص له مقالة لأفحصه وأذكر التوقيعات النادرة التى أتيح لى أن أقف عليها. كنت إذ أفرغ من رسم السجادة أحوله إلى رسم تنفيذى على ورق مربعات مطابق لعدد العُقد فى السنتيمتر الواحد، وكثيراً ما كان ذلك دقيقاً جداً، خاصة مع التلوين. يتم استنساخ الرسم وتوزيعه على الوحدات الإنتاجية بالمحافظات، وكانت منتشرة فى أصغر القرى والنجوع. وكان العمل يقتضى متابعة التنفيذ. هكذا كنت أسافر مرتين أو أكثر كل شهر إلى مكان ما فى مصر. هكذا عرفت قرى ونجوعا وكفورا بعضها لم أدخله إلا مرة واحدة، لم أعد إليه ربما لنأيه، أو لعدم ورود مناسبة، أو حلول فرصة، أقمت فى عام خمسة وستين بمحافظة المنيا حوالى سنة بعد صدور قرار مفاجئ يشبه النفى، إذ ارتبط بالتنفيذ خلال أربعة وعشرين ساعة، وكان بداية لسنة صعبة جداً بالنسبة لى، أما السبب المباشر فكان إبلاغى عن سرقات فى بعض مناقصات تمت من جانب إدارة المؤسسة، وقامت الشرطة العسكرية بالتحقيق فيها، الطريف أننى نُقلت وأيضاً وكيل النيابة الذى انتُدب للتحقيق، ما زلت أذكر اسمه، حسن صيام، قابلته صدفة فى القطار أثناء نزولى القاهرة، وأثناء تبادلنا الحوار علمت ما لحق به فأيقنت جسامة الخلل، ولهذا أيضاً شرح وتفصيل. خلال إقامتى فى المنيا عشت مع أهلها، وتنقلت فى ديارها وهى من أجمل مناطق مصر، بعد خروجى من الاعتقال السياسى أصدرت كتابى الأول «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» بالتعاون مع صديق العمر يوسف القعيد. انتقلت للعمل بالصحافة، اخترت العمل بالجبهة خلال حرب الاستنزاف، ومع الجيش رحلت إلى مناطق يندر وجود المدنيين فيها، خاصة الصحراء الجنوبية؛ سواء كانت الشرقية أو الغربية أما واحات مصر فهذا عالم مغاير مختلف. مصر ثرية جداً، متنوعة جداً فى الطبيعة والمشاهد والعصور، ولولا حرصى على الترحال من خلال ظروف حياتى الخاصة ما عرفت تفردها وجمالها النادر.