هل تستطيع أن تمتلك الدنيا وما فيها؟ بعضنا يتمنى ذلك، وبعضنا هلك وهو يحاول ذلك، وبعضنا لا يزال يَهلك ويُهلِك أهله وهو يظن أنه سيفعل ذلك! وقد تظن أنك امتلكت الدنيا، بمالك وما لك، ولكنها قد تكون هى التى امتلكتك! فمن كانت الدنيا فى قلبه ملكته، ومن كانت فى يديه امتلكها، ومن كانت لا فى قلبه ولا فى يديه فلا ملكها ولا ملكته. وفى الأدب الروسى قصة عن ذات المغزى للأديب العبقرى تولستوى تحمل حكمة عجيبة، تروى هذه القصة أن شيطاناً ظهر أمام الناس فى صورة إقطاعى يمتلك مساحة ضخمة من الأراضى والأملاك والماشية والطواحين والضياع التى من فرط اتساعها لا تستطيع العيون أن تدرك مداها أو تصل إلى نهايتها. يا الله! أكل هذه الأراضى والأملاك لهذا الإقطاعى وحده؟! هكذا قال أحد الفلاحين الفقراء همساً وهو يمنى نفسه أن يحصل ولو على قيراط من هذه الأرض، وعندما أفرط فى الأمانى تمنى أن يكون مع القيراط بقرة يحلب ضرعها ويشرب من لبنها، ويا حبذا لو كان معهما حمار ينقل عليه السباخ وينقل السماد. ثم أخذ الفلاح الفقير يفتل حبل الأمانى، فتمنى ساقية، وبيتاً بدلاً من الكوخ الذى يعيش فيه، وجُرناً، وشونة يخزن فيها الحبوب والغلة. وبينما الفلاح مستغرق فى أمانيه ظهر له الإقطاعى وهو يربت على كتفيه قائلاً: ولمَ تحصل على قيراط واحد أو بقرة أو حمار أو ساقية وجُرن؟! كل هذه الأرض بما عليها لك إن استطعت، ولا أظنك تستطيع. فقال الفلاح وهو يزدرد ريقه: كل هذه الأرض لى إن استطعت! أنا أستطيع ولكن كيف؟! رد الإقطاعى: نحن الآن فى الصباح الباكر، فإذا قمت بالجرى حول هذه الأرض دون توقف فكل ما جريت حوله سيكون ملكك بشرط أن تعود إلى مكانك الذى بدأت منه قبل الغروب، أما إذا غربت الشمس ولم تعد فقد ضاعت عليك الصفقة. نظر الفلاح إلى الأرض واتساعها، ووقر فى قلبه أنه يستطيع أن يمتلك كل هذه الأرض، الأمر فقط يحتاج إلى قدر من الهمة والنشاط، وفى التو أسرع الفلاح جرياً، لم يتوقف لحظة، وكلما تقدم الوقت كلما وسَّع من دائرته اغتراراً بقوته وطمعاً فى المزيد، وكلما هدَّه التعب أيقظ همته الطمع: فلتستمر فسوف تحصل على ما تريد وأكثر، استمر ففى الوقت مزيد، استمر فأنت فى أوج شبابك، استمر فأنت أقوى أهل قريتك وأعلاهم طموحاً! وانتصف النهار والفلاح يجرى ويلهث، لا يريد أن تتباطأ خطواته ولا أن تتوقف حركته، ومع ذلك فالأرض كانت وكأنها تجرى مبتعدة عنه كلما قطع شوطاً كبيراً منها. ألا توجد نهاية لهذه الأرض؟! للأرض نهاية مهما بلغت، ولكن أطماع الفلاح ليست لها نهاية، وحين جف ريق الفلاح بسبب العرق الذى سال منه وروى الأرض، وارتجف قلبه بشدة مع وقع خطواته، حتى إن الأرض رددت صدى دقات قلبه، حينها نظر خلفه فوجد أنه ابتعد كثيراً عن البداية لدرجة أنه لم يعد يبصرها، فكان أن قرر أن يقفل عائداً إلى حيث النقطة التى بدأ منها، وما زال الوقت أمامه طويلاً، ولكن الجهد كان قد ضمر، والخطوات أصبحت ثقيلة، والشباب له قدرته على الاحتمال، والقوة إن لم تكن تدرى فإنها إلى زوال، ورحلة العودة أصبحت وكأنها مستحيلة، ولكنه يجب أن يعود قبل غروب الشمس، والخيوط الحمراء بدأت تأخذ طريقها فى الأفق، وموكب الأفول يُعِد عدته، فليقسُ على نفسه ليسبق موكب الغروب، هيا أيها الفلاح النشيط، أنت على بعد خطوات من تحقيق حلم حياتك، ستصبح أغنى البشر، وستكون لك الضياع، وسيعمل عندك الفلاحون كأجراء يفلحون أرضك، وستشترى العبيد ليكونوا جنودك، وستمتلك كل إصطبلات الخيل فى مقاطعتك، أنت على بعد خطوات من اللقب الذى بت تحلم به ليل نهار؛ لقب «السيد» الذى لا مثيل له بين الألقاب. وبدأت الدنيا تغيم أمام ناظريه، والأرض تميد تحت رجليه، ونقطة البداية لا تزال بعيدة، فهو كان قد أفرط فى الابتعاد: ألا تساعدنى الأرض فتحملنى إلى بدايتى التى بدأت؟! ولكن الجهد الجهيد الذى جعله يتطوح كالثمل أعمل أفاعيله فيه، فأخذ ينفث دماً، وها هو الآن أمام حياته أو الأرض، إذا توقف غنم حياته وخسر الأرض، وإلا فعلى نفسها جنت براقش، ولكن الشيطان يملى لأتباعه حبل الرجاء، والإنسان يعرف أن كل شىء سيحدث، إلا لحظة موته فتلك التى لا يصدقها أبداً، ولا يفكر فى انتظارها. فلم يتوقف الفلاح، وظل يجرى قافلاً وهو يسمع صيحات متخيلة، يحسبها صيحات المشجعين، والفرحين، والمؤيدين، فقد استحالت الدنيا عنده خيالاً، وأخذ يغادر دنيا الناس، وقبل ستين متراً من نقطة البداية سقط الفلاح ميتاً! وما أروع التعليق الذى كتبه الدكتور الأديب مصطفى محمود -رحمه الله- عن هذه القصة، إذ قال: «إن الفلاح الطماع الذى أراد الأرض كلها لم يحصل فى النهاية إلا على مترين من الأرض كانت مقره الأخير ومدفنه».