حارب النبى، صلى الله عليه وسلم، العصبية بمعناها القبلى، وجعلها فى الدين: «دينك.. دينك.. لحمك دمك»، فقد أراد أن يجمع المسلمين تحت راية وحيدة هى راية الدين، وجعل العصبية سمة من سمات الجاهلية. وقد وصف القرآن الكريم المنضوين تحت راية الإسلام ب«حزب الله». وقال فى كتابه الكريم: «أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهُ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». ومن المضحك أن تجد بين المسلمين اليوم مَن يصف تجمُّعه السياسى ب«حزب الله»! وأن يخرج «حسن البنا» على المسلمين ذات يوم معلقاً على الصراعات الحزبية فى الثلاثينات والأربعينات -وهى صراعات سياسية فى جوهرها- بقوله «لا حزبية فى الإسلام» وإن الإسلام لا يعرف سوى حزبين هما حزب الله وحزب الشيطان! فأسقط بشكل عجيب ما هو دينى على ما هو سياسى. ولست أدرى هل فعل ذلك على سبيل التغفيل أم على سبيل التضليل. إن الدين أمر والسياسة أمر آخر. الدين له أصوله وقيمه، والسياسة لها قواعدها. وقد كان النبى، صلى الله عليه وسلم، شديد الصراحة والمباشرة فى عدم الانتصار لحزب، حتى ولو كان الحزب الذى ينتمى إليه نسباً، لأن هذا ليس من شأن النبى صاحب الرسالة، بل من شأن رجل السياسة. ومن المعلوم تاريخياً أن نفراً من بنى هاشم لم يؤمنوا برسالة محمد، ورغم ذلك شكلوا غطاءً سياسياً مهماً له، خصوصاً خلال المرحلة المكية، ودأبوا على منع المشركين من الوصول إليه صلى الله عليه وسلم. وقد ظل أبوطالب -عم النبى- يمنع مشركى مكة من الوصول إلى النبى، وعندما حانت منيته دعاه النبى أن يشهد ألا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فرد عليه عمه: «أأترك دين عبدالمطلب؟». لم يشفع لأبى طالب بلاؤه فى الزود عن النبى، لأن دفاعه عنه كان أمراً سياسياً، ولم يكن عقائدياً. وكان النبى، صلى الله عليه وسلم، يخاطب أقرب الناس إليه قائلاً: «يا فاطمة بنت محمد، اعملى فإنى لا أغنى عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله، اعملى فإنى لا أغنى عنك من الله شيئاً، يا عباس عم رسول الله، اعمل فإنى لا أغنى عنك من الله شيئاً». ويتعجب المحلل وهو يلاحظ ميلاد مفهومى «الخلافة» و«الخليفة» داخل سقيفة «بنى ساعدة» فى ظل سعى بدا حثيثاً لتأسيس ما هو سياسى على ما هو دينى من أجل تبرير الأهلية للحكم، أو المنافسة عليه، فقد استند أبوبكر الصديق ومعه عمر بن الخطاب، رضى الله عنهما، إلى العصبية القرشية، محتجين بحديث النبى صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش». ولست أدرى كيف يمكن التوفيق بين هذا الحديث، وحديث آخر للنبى يقول فيه: «اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشى كأن رأسه زبيبة». الواضح أن الحديث الثانى يتسق مع توجهات النبى التى كانت تحارب فكرة العصبية والتعصب. والملاحظ لتاريخ الاقتتال بين صحابة النبى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم يجد ما هو أعجب، عندما كانوا يتوقفون عن القتال حين الصلاة، ويؤدونها معاً، بما فى ذلك الصلاة على قتلاهم من الفريقين. الأمر الذى يعنى أنهم كانوا يفرقون بين ما هو سياسى وما هو دينى. ويؤكد لك ذلك أن الخلافة كنظام للحكم لم تكن سوى مفهوم ولّده الصراع على السلطة، وليس أصلاً من أصول الإسلام. الخلافة ليست أكثر من فكرة فرضها سياق حال المسلمين الأوائل، ويلفظها سياق حال المسلمين المعاصرين.