مكانها المرتفع فوق مبنى جهاز التعبئة والإحصاء لم يسمح لكثيرين بأن يلقوا عليها نظرة. عربات كثيرة تملأ الشارع ذهاباً وإياباً على الطريق الحيوى فى طرف القاهرة الشرقى باتجاه مطار القاهرة، حيث يراها من قرر أن يهجرها تاركاً موقعه لوليد أتى قبل أن يركب هو طائرته. حركة مرور كثيفة لا تلتفت لتلك الأرقام التى تنبئهم كل 20 ثانية بأن مولوداً جديداً قد أتى ليكون أول رقم له فى الدنيا هو ذلك الذى سجلته له لحظة ميلاده «الساعة السكانية». لا يعرف أحد الآن كيف هو حال «حسنين ومحمدين.. زينة الشباب الاتنين» بطلَى أول إعلانات توعية تنظيم الأسرة، ولا يوجد سبيل لمعرفة كيف انتهى الحال بحسنين بعد أن أصبح حاله «عدم» بسبب كثرة الإنجاب، ولا كيف ازدهرت حياة محمدين الذى اكتفى بطفلين فقط. انتهت حملات التوعية بتنظيم الأسرة -وهى الكلمة التى استقر عليها صراع طويل بين مؤيدى «تحديد النسل» ومعارضيه- ب«الراجل مش بس بكلمته.. الراجل برعايته لبيته وأسرته»، الكلمات التى حملت طابع صاحب الصوت فاختفت هى الأخرى بعد أن اختفى هو، توقفت التوعية والحملات المستمرة وقوافل المراكز الحضرية فى القرى والنجوع، ورغم كل هذه الجهود المضنية أعلن عداد الساعة السكانية انتهاءها بسرعة الرقم المتغير كل 20 ثانية، مؤكداً أن «النيل لا يزال يجرى». «بقالى عشر سنين بشتغل فى التنظيم والإدارة، أول مرة أشوفها النهارده»، تتحدث السيدة الخمسينية التى أنهت عملها فى تنظيف المبنى المجاور للتعبئة والإحصاء، فاجأها السؤال عن الساعة، فالتفتت إلى الأعلى ضاحكة: «ودى بقى بتاعة إيه؟!»، لا تعرف «الحاجة خضرة» ماذا تعنى تلك الأرقام الحمراء التى تظهر على شاشة تسطع الشمس الحارقة فى واجهتها.. «يعنى بيعدوا الزيادة السكانية، طب ازاى بيعرفوا إن فيه مولود جديد دلوقتى؟»، شُغلت السيدة التى أنجبت 4 أبناء -ليعينوها على الأيام فأعانوا نوائب الأيام عليها- بكيفية عمل الساعة وجدواها بعد أن عرفت معناها: «يا ريتهم عملوها من زمان وفهّمونا، يمكن ماكنتش جبت الأربعة اللى قاطمين وسطى». تحت شمس بلغت حرارتها 53 درجة مئوية، بحسب الساعة الأخرى التى تُظهر درجات الحرارة والرطوبة، خطا الحاج محمود فؤاد، المقبل من المنوفية، يسأل عن بانوراما أكتوبر، يمر بمحاذاة المبانى الحكومية، يطالع لافتات الطرق وأسماء الهيئات، لكنه لم ينتبه إلى الرقم الجديد الذى أضافته الساعة لحظة مروره أسفلها.. «الرقم ده غلط والساعة مش مظبوطة»، يؤكد الرجل الخمسينى ذو اللحية الطويلة على خطأ الرقم، فقد سمع مراراً وتكراراً عن تخطى مصر حاجز ال100 مليون نسمة: «يبقى إزاى العداد بيقول إننا لسه 87 مليون وشوية؟!». لا يعنى وجود الساعة فى مكانها شيئا ذا أهمية لرجل حفظ القرآن وتدبّر معانيه وصدّق حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: «تناكحوا تكاثروا فإنى مُباهٍ بكم الأمم يوم القيامة»، فهو لم يوافق مطلقاً على أن تستخدم زوجته أياً من وسائل تنظيم الأسرة، فأنجب خمسة من الأولاد استطاع أن يربيهم ويعلمهم «أحسن تعليم» كما يحب أن يفاخر، مؤكداً: «ربنا بيقول لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم.. نيجى إحنا ونقول حددوا النسل ونظموا الأسرة، ما هو ربنا منظمها عامين لكل مولود راحة للأم واهتمام للطفل». عداد آخر على بعد خطوات من العداد السكانى، يحمل أرقاماً اقتصاية وسكانية ومعلوماتية عن حال مصر «الآن» ما يخص الموازنة والتعليم والصحة والمصريين بالخارج والموفدين فى بعثات تعليمية، لكن أحداً لا يتوقف ليقرأ ما يدونه العداد من معلومات كل عدة ثوان، إلا رجل واحد خرج من مبنى جهاز التعبئة والإحصاء مغادراً إلى منزله بعد انتهاء مواعيد العمل الرسمية، لكنه قبل الرحيل قرر أن يلقى نظرة إلى العدادين، متوقفاً بضع ثوان، لعل أحداً يهتم بسؤاله عن هذه البيانات فيشرح له ما خفى عنه.. «الأستاذ محمد»، هكذا عرف نفسه وفقط: «أنا موظف هنا ولازم تصريح عشان أتكلم مع الصحافة، لكن لو عايزة تسألينى كمواطنة هرد عليكى». يؤكد الأستاذ محمد أن الساعة التى وُضعت فى مكانها منذ عامين فقط للأسف لم تغير من الأمر شيئاً، وأصبحت مجرد علامة فى الطريق لا أكثر: «ناس قليلة أوى اللى بتهتم وتدخل تسألنا عن العدد وبيتغير إزاى ودلالات الأرقام اللى موجودة على اللوحة التانية ومدى تأثيرها على المواطن العادى». التساؤلات التى كانت تأتى لموظف التعبئة والإحصاء فى بداية عمل العدادات بدأت تخف بالتدريج حتى انتهت الآن تماماً. يشرح الأستاذ محمد ببساطة أن الأرقام التى تعلن كل دقيقة وفق آخر التحديثات هى إنذار بالخطر لكل مواطن مصرى: «الناس لو بس تقف وتقرأ وتفهم كانت الدنيا اتغيرت، لكن مع الأسف الناس ملهيّة فى لقمة العيش ومش فاهمين ليه لقمة العيش بقت صعبة كده». علامات الحزن، التى رفض الأستاذ محمد أن تفضحها صورة بالكاميرا، ظهرت جليّة فى حديث إبراهيم عليوة الذى يمر يومياً بجوار الساعة بحكم وظيفته بالجهاز المركزى للتنظيم والإدارة. يلقى نظرة على الساعة مرة، ويتجاهلها متعمداً مرات، فالرقم المتغير دوماً فى هذا العداد يذكّره بأن هناك مولوداً جديداً سيطالبه ذات يوم بوظيفة فى جهاز الدولة الوظيفى باعتبارها حقه، وربما يخرجون ملايين تطالب بالعيش والعدالة الاجتماعية بعد عدة سنوات.. «بشتغل فى الجهاز اللى مسئوليته فى الدولة إنه يحقق العدالة الاجتماعية وينظم الكيان الوظيفى فى الحكومة.. وأسوأ آفة فى الدولة هى آفة ابن الموظف اللى لازم يبقى موظف هو كمان، لحد امتى هنلاحق وظايف على كل الأجيال دى؟!»، ربما صدفة مقصودة أن يكون الجهاز المركزى للمحاسبات وجهاز التنظيم والإدارة مجاورين لجهاز التعبئة والإحصاء، ويطالع موظفوهما هذه الساعة يومياً: «العداد ده بالنسبة لينا زى الصراط المستقيم، بس للأسف ماحدش عارف قيمته». كل 15 يوماً يمر الشاب «محمد عصمت»، ينتظر أوتوبيس شركة السياحة التى يعمل بها على رصيف الساعة: «إحنا شعب متخلف، فاكر إن الكترة بركة، لكن مع الأسف الجهل والفقر والمرض اللى احنا فيه مش هو الحالة اللى تنفع معاها البركة». يتذكر عصمت، الذى ينتظر مولوده الأول، آخر لقاء بينه وبين الساعة السكانية منذ عشرة أيام: «كنا تقريباً 87 مليون وكسر بسيط»، الكسر البسيط لا يدرك الشاب العشرينى أنه قد تعاظم فى أيام قليلة ليتخطى حاجز ال35 ألف مولود جديد عما رآه آخر مرة: «وعارف إنى لما آجى بعد أسبوعين هتكون الزيادة تخطت ال100 ألف». «ماشية بالبركة»، التعبير الأفضل الذى يمكن إطلاقه على ما يحدث فى مستشفيات مصر وعلى عدد حالات الولادة التى تدخل يومياً للمستشفيات الحكومية فقط والتى قُدرت فى مستشفيين اثنين فقط بمائة حالة يومياً وما خفى كان أعظم. الحديث عن تنظيم الأسرة وتحديد النسل فى قلب «كشك الولادة» هو حديث أقرب للسخرية، ففى الوقت الذى ترتفع فيه صرخات المخاض يتلاشى فيه أى صوت آخر، هكذا الحال داخل مستشفى «سيد جلال» الجامعى التابع لجامعة الأزهر، نساء تتراص فى عنابر الولادة، والأهالى يقفون طوابير مزدحمة من أجل الاطمئنان على «الودود الولود».. لا يفرّق «كشك الولادة» بين زوجة متعلمة ومثقفة تربت على مفهوم «أسرة صغيرة سعيدة»، وبين أخرى تبحث عن ولد يرفع هامتها بين قرينات لها يتندّرن على «خلفة البنات» أو حمل تأخر بعد زواج دام لسنوات. داخل «كشك الولادة» الذى احتوى بين جنباته 50 امرأة على الأقل بين آلام مخاض طبيعية وبين آلام صناعية أطلقها الحقن «بالطلق الصناعى»، رقدت الصغيرة التى لم تكمل بعد ساعتها الأولى فى الدنيا، غير عالمة أنها قد أصبحت «رقماً» سُجل فى الساعة السكانية حتى قبل أن يختار لها أبواها «اسماً»، ببكاء وصراخ بدأت «فرح أو قمر» -هكذا ستسمى بعد قليل- لحظاتها الأولى، بينما تحكى أمها التى ما زالت محاليل الأدوية معلقة بيديها: «دى جت غلطة». 11 عاماً تفصل بين الصغيرة الباكية وبين آخر أشقائها: «أنا كنت باخد وسائل منع الحمل والدكتورة هى اللى كبّرتها فى دماغى، قالت لى خلاص هتكبرى والوسائل دى هتجيبلك عقم بدرى». الطبيبة النسائية التى ذهبت لها فاطمة فى عزبة الهجانة، حيث تسكن، بدلاً من أن تعينها على تنظيم النسل كانت سبباً فى مولود جديد لا تعرف الأم كيف سيستطيع الأب العامل أن يعيله ب600 جنيه هى كل ما يعطيها إياه فى مطلع كل شهر: «أنا قعدت 11 سنة راضية بالعيلين اللى ربنا بعتهم لى، بس الظروف هى اللى حكمت». «غلطة فاطمة» لا تعتبرها ستؤثر فى الزيادة السكانية أو تكون سبباً فى أعباء إضافية على الدولة المصرية، فهى لا تملك «أورطة عيال»، لكن: «كل الحكاية 3 عيال أول عن آخر، الزيادة السكانية دى لو واحدة مخلفة 6 أو 7 عيال». حال فاطمة لا يختلف عن حال جيرانها فى «كشك الولادة»، فكل منهن قد أتت لتنجب «طفلاً»، لكن اختلفت بطونهن بما حملت، فبعضها «غلطات» كما فاطمة، وخاصة بعد الطفل الرابع، وأحياناً الخامس، وبعضهن الآخر كان الحمل هو السبيل لرفع الرأس وصلب الظهر، كما حال «رشا محمد إبراهيم» التى تزوجت منذ 14 عاماً، لكنها بقيت بلا إنجاب 6 سنوات كاملة حتى أراد الله فأنجبت «حسن ومحمد» على التوالى: «خلفت 2 بعد شوقة، وكان نفسى فى بنت بقى، وآدى ربنا كرمنى بيها وخلاص على كده هقفل».. 3 أبناء كانوا كفيلين برفع رأس رشا وسط أسرة زوجها الذى انكفأ رأسه من السعى وراء لقمة العيش: «جوزى شغال أرزقى باليومية، وحالنا كله على الله»، بعد الطفلة الثالثة تفكر رشا جدياً فى وسائل منع الحمل، لكنها لن تسمح بوسوسة الشيطان هذه المرة: «أنا خلفت 3 والباقى على الحكومة واللى ييجى زيادة الحكومة ما تاخدوش». وجهة نظر رشا التلقائية لا تتقبلها هدير، الزوجة الشابة التى حالفها الحظ فحملت بعد شهور فقط من زواجها: «يعنى إيه اللى ييجى بعد ال3 الحكومة ما تاخدوش.. الدولة ملزمة بأنها تكفلنا والدستور اللى وافقنا عليه بيقول كده». دبلوم التجارة الذى حصلت عليه هدير قبل زواجها كفل لها أن تقرأ وتحاول تثقيف نفسها: «إحنا صحيح مش أغنياء لكن مفيش نص فى الدستور يقول إن تحديد النسل ب2 أو 3 واجب على الأسرة، ولو كان ده حصل ماكناش هنروح ونقول نعم». خارج كشك الولادة وقف «عبدالمؤمن» حاملاً طعام النفاس لزوجته التى خرجت لتوّها من غرفة الولادة، فهى العادة التى اعتادها منذ إنجابها لثلاثة أطفال قبل هذه المرة: «كل مرة تخرج من الولادة أجيب لها فرخة مسلوقة وأنا جاى، دى عادة أمى وحماتى ومش هبطلها». الطفل الرابع لعبدالمؤمن لا تختلف فرحته به عن الأول، وخاصة إن كان «ولداً».. فى نفس المستشفى الذى أنجبت فيه الزوجة يعمل عبدالمؤمن حارساً للأمن، مرتب ضئيل بالكاد يعينه، لكنه لا يحمل هماً لطفل جديد، رابعاً كان أم عاشراً.. «الخير على قدوم الواردين، والعيل بييجى ورزقه معاه»، هكذا يتحدث الرجل الأربعينى الذى بدأ الشعر الأبيض يتسلل لشاربه الكث: «الزيادة السكانية مش مشكلة السكان، دى مشكلة البلد اللى مش عارفة تستغلها، وروحوا شوفوا الصين بتعمل إيه واتعلموا». شىء واحد اتفق عليه من أنجبوا فى الأسبوع الأخير، أن جميعهم لا يعرفون شيئاً عن الساعة السكانية، وأن موقعها فى برجها العالى لم يلفت نظر أى منهم على الإطلاق، فرغم المستشفى الحكومى الذى جمع معظمهم فإن طريق صلاح سالم وجهاز التعبئة والإحصاء لا يعرفه قاطنو الخصوص وعزبة الهجانة والمطرية وبولاق الدكرور، كما لم تلفت الساعة «أبويحيى» رغم تكرار مروره عليها فى طريقه للمطار حيث يسافر بعد قضاء إجازاته فى مصر.. أرقام مختلفة يذكرها جميعهم عن التعداد السكانى لمصر تتراوح ما بين ال75 مليوناً وصولاً إلى 120 مليوناً، لكن أياً منهم لا يعرف أن هؤلاء الأطفال الذين يجمعهم البكاء داخل المستشفى جمعتهم اللوحة الإلكترونية منذ قليل لتتغير الأرقام العشرية فى الرقم المليونى كل 20 ثانية، وكما سجلت الساعة 87 مليوناً فى السادسة و46 دقيقة مساء الثلاثاء 19 أغسطس، سجّلت «الوطن» زيادة الرقم إلى 87039836 فى تمام الساعة 6.46 دقيقة مساء أمس الأول الثلاثاء.